أحلام بلا قيود
أنا مصاب بمرض غريب وهو تقمص الشخصيات التي أقرأ عنها أو أعجب بها ومما يزيد الطين بله أني أحب قراءة التاريخ وأعجب بالكثير من الشخصيات التاريخية لذا أصبحت حياتي جحيماً لا يطاق!
فكل يوم أرتدي حلة مختلفة وكل ليلة أتقمص شخصية تاريخية وأصبحت أتجول بين المدن والأقاليم وعبر القرون والسنين كالشخص الذي يمتطي مركبة فضائية تتجول به بين الكواكب بسرعة كونية .
البارحة كنت في غرناطة أرتدي تاج ابن الأحمر وأتطلع بكل فخر واعتزاز إلى لوحات ذهبية منصوبة على الأبواب ومطرز عليها مقولات ( لا غالب إلا الله ) .عندما استيقظت في الصبـاح سألتني زوجتي :
- ما بك يا أحمد لقد كنت تجهش البارحة ؟
لملمت أطراف الأوراق من بين عيني وأسدلت اللحاف على وجهي وأنا أقول (قليل من البرد )!
نهضت بسرعة وغسلت بقية السهر وازدرت لقيمات وانطلقت إلى السيارة فمواعيد التوقيع الصباحي هو أهم ما يجابه الموظفين من مصاعب ومشاق عملية !
هذه السيارة اللعينة لا تعرف الصمت إلى في أوقات الضيق .. حاولت أن أديرها مراراً وتكراراً ولكن يبدو أن الصمت هذه المرة لا فكاك منه ماذا يضير ألم يقولوا ( الصمت حكمة )!
رفعت رأسي ولمحت لوحة تحمل اسم الشارع الذي أسكن فيه (شارع الكوفة ) .. عجباً للصدفة ! أنا أعيش في الكوفة منذ عدة أعوام ولم أدري إلى الآن .. وفجأة لمحت على أحد الجـدران كتــابة تقـول ( يسقط الحجاج ) فارتعدت فرائصي وأحسست بقشعريرة تسري في جسدي وقلت :
ربَّ هذه الشخصية التي لا أريد أن أتقمصها ! وعلى ما يبدو أن ذكر الحجاج أشعلت في يدي تيار كهربائي من نوع معين ففي تلك اللحظة أدرت مفتاح السيارة فإذا هي تزغرد كصوت صبية من الصبايا اللاتي يعبرن جسر الرصيف .
انطلقـــت في جنــون أصـــارع ( الليموزينات ) فمزاحمة هذه الكائنات جزء من الكفاح الوطني .. أضاءت الإشارة الضوئية التي أمامي بالون البرتقالي فبدأت بالتفكير :
- المسافة طويلة .. هل سأتمكن من اللحاق بها ؟!
أتى الجواب سريعاً فبعد الحادث الذي شاهدته بالأمس يبدو أن الحل المناسب هو أن نحترم الإشارات الضوئية البرتقالية !
توقفت بهدوء ويكل جراءة رغم صريخ العجلات الذي تعالى من السيارات الراكضة خلفي ، ما علينا !
هذا الشارع الفسيح الجميل ما أسمه يا ترى ؟ التفت إلى حيث اللوحة فإذا مكتوب ( شارع عمر المختار ) ..
صرخات غرازياني تصم أذني :
- لقد حذرناك من عاقبة التمرد يا عمر .. ولكن !
ابتسمت بفخر ورأسي مرفوع عالياً وقلت :
- اقتل يا غرازياني .. ( فنحن أمة لن تموت ) !
ضرب قوي ينهال على سيارتي .. التفت في دهشة وإذا أحدهم يخاطبني بغضب :
- يا أخي حرام عليك .. الإشارة خضراء منذ مدة طويلة لم لا تتحرك ؟
- آسف .. آسف .
اندفعت بقوة إلى حيث الإشارة الضوئية الثانية . نظرت إلى اللوحة ( مرة أجرى ) فإذا الشارع يحمل اسم ( شارع البحر الميت ) .
أغمضت عيني ووضعت قدمي بكل قوة على دعاسة البنزين .. فانطلقت السيارة كالبرق و اخترقت السيارات الأخرى كالسهم .. صرخات كثيرة تأتي من كل صوب :
- ( مجنون ) .
- ( انتبه لهذا المتهور لقد تجاوز الإشارة الحمراء ) .
- ( ……… ) !
لم أعرهم اهتماما إنهم أناس بلهاء لا يفقهون أن علينا أن نعبر البحر الميت حتى ولو كانت الإشارة حمراء !
دلفت إلى المكتب في الوقت المناسب وقضيت بقيت اليــوم كالعادة .. ( جرائد .. شاي .. حكايات ممتعة ) شئ مختلف اليوم :
صديقي ياسر ذلك الشاب الممتلئ نرجسية وغرور ونزوات يبدو مختلفاً البتة إني أتذكر عندما يأخذ مجموعة من الصحف وينزوي في أحد المكاتب حتى لا يشاركنا صلات الجماعة !
اليوم .. ياسر يبدو وقوراً ومؤدباً ويسابقنا إلى الصفوف الأمامية . بعد الصلاة اقتربت منه وسألته :
- ياسر لقد تغيرت كثيراً ؟ !
ابتسم بأناقة وكأنما قد فهم الإشارة وقال :
- أبداً ، ولكن عملت البارحة مراجعة مع نفسي وقررت أن الطريق الذي أسلكه خاطئ تماماً وعزمت إلى التغير إلى مـا ترى .
ابتسمت بفرح وتمتمت بصوت خافت :
- الحمد لله .. حقاً لقد صدق عمر عندما قـال عند الإشارة ( نحن أمة لا تمـوت ) .
التفت ياسر نحوي وعلامات الاستغراب تملأ محياة الوقور وسألني :
- من عمر ؟ ما هي الإشارة ؟ ماذا تقول يا رجل ؟
فرددت سريعاً :
- لا عليك يا أخي .. إني أفكر بصوت مسموع !
**************************************************
نقلاُ عن مجلة الأسرة
تحياتي