يعتبر جبران خليل جبران من الأدباء الذين أثروا فن المراسله عند العرب بما تركه من رسائل لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم , فولجوا عبرها إلى عالم جبران المليء بالرموز والأسرار .. لقد فتح جبران فتحاً جديداً ورائعاً في دنيا الأدب العربي , عندما تحول عن التأليف بالعربيه ألى التأليف بالأنجليزيه.. حتى لمع أسمه في كثير من الدول الأجنبيه ..
وفي هذا الموضوع أود أن أسلّط الضوء على الحب الذي نشأ بين جبران ومي زياده , , حب فريد لامثيل له في تاريخ الأدب , أو في سير العشاق ,مثال للحب النادر المتجرد عن كل ماهو مادي وسطحي .
لقد دامت تلك العاطفه بينهما زهاء عشرين عاماً , دون أن يلتقيا الاّ في عالم الفكر والروح , والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيماً وكانت مي في مشارقها , كا ن في امريكا وكانت في القاهره. لم يكن حب جبران وليد نظره فابتسامه فسلام فكلام بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسله أدبيه طريفه ومساجلات فكريه وروحيه ألفت بين قلبين وحيدين , وروحين مغتربين .ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين ..
كان طبيعياً جداً أن يتعارف بطلا هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في اوائل هذا القرن , بعد ان أصاب كل منهما شهره كبيره .. كانت مي معجبه بمقالات جبران وافكاره فبدأت بمراسلته عقب أطلاعها على قصته ( الأجنحه المتكسره ) التي نشرها في المهجر عام 1912م, كتبت له تعرب عن أعجابها بفكره واسلوبه , وتناقش اراءه في الزواج وقيوده , والحب وأطواره حسب رؤيته في هذه القصه التي قرأتها له ...
وتعرض عليه رأيها في وجهة نظره في حرية المرأه التي طالب بها والتي
اتفقت معه في أمر وعارضته في جانب آخر , حيث قالت " لايصح لكل أمرأه لم تجد في الزواج السعاده التي حلمت بها أن تبحث عن صديق غير زوجها فلا بد أن تتقيد المرأه بواجبات الشراكه الزوجيه تقيداً تام حتى لو هي سلاسل ثقيله , فلو توصل الفكر الى كسر قيود الأصطلاحات والتقاليد فلن يتوصل الى كسر القيود الطبيعه لأن أحكام الطبيعيه فوق كل شيء, وهذه تعتبر خيانه ولوفي مظهرها طاهر وتخون الهيأه الأجتماعيه التي هي عضو عامل فيها "
ومن هنا كانت البدايه ومن ثم تواصل بالرسائل التي كان كل منهما يبحث عن روح الآخر في يقظته وأحلامه , كان كل منهما يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبه حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الأخر ... وكلما قرأنا هذه الرسائل النابضه بالحياة الناضحه بالصدق , كلما أزددنا يقيناً بأن الحب الذي شد جبران الى مي , وشغف مي بجبران , حب عظيم , بل عشق يكاد يكون صوفياً لأنه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس الى عالم تتحد فيه قوة الوجود ..
ويتضح لنا لدى التأمل في بعض الرسائل برغم ضياع بعضها أن الصله بين جبران ومي توثقت شيئاً فشيئاً لأن لهجته في مخاطبتها تدرّجت من التحفظ الى التودد , ومن الأعجاب الى صداقه حميمه , ومن ثمَ الى حب عام 1919م ما أن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسله من الخلافات بينهما التي عبّر عنها جبران مرةً " هي معاكسات التي تحوّل عسل القلب ألي مراره " وقال" ان الغريب حقاً في هذه الصله تأرجحها بين الحب الجامح والفتور , بين التفاهم التام الذي كان يضفي عليهما شفافيه روحيه تغمرهما بالسعاده ,وبين سوء التفاهم الذي كان يؤلمهما ويؤدي الى القطيعه احياناً ,,]ولكن شدة ولع كل منهما الآخر كانت تدفعهما للتصالح مجدداً..
وبرغم كل هذا الحب كان كل منهما يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح , ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكره وجميله .. فلم ينادي مي قط بقوله
حبيبتي" ولم يخاطبها باللغه المألوفه للعشاق , غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ , وانا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما لايقاس من الروابط الدمويه والأخلاقيه "وبعد أن باح لها , رجاها ان تطعم النار رسالته اذا لم تجد لبوحه الصدى المرجوا في نفسها ..
كانت مي في حياة جبران الصديقه, والحبيبه الملهمه , وصلة الوصل بينه وبين وطنه , وأكثر ماحبه فيها عقلها النيّرالذى تجلى في مقالاتها وكتبها , وأحب فيها حبها له .., واعجابها بشخصيته وانتاجه الأدبي والفني الذي كانت تتناوله بالتقريظ والنقد في مقالاتها في مصر ...
وعلى الرغم من كل ماكُتب عن علاقات جبران الغراميه من النساء امثال " ماري هاسكل " وميشلين " فأن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي ملك قلبه وخياله ورافقه حتى نهاية حياته فقد كان حبه لها معادلاً حبه العارم لوطنه لبنان ..ولروحانية الشرق , وبالدم العربي الذي يجري في عروقه ,, وهذا مما تؤكده رسائل الشعله الزرقاء , التي هي جوهر النفس الأنسانيه في أسمى صفائها , ويميل المحللون للأعتقاد بأنه لم يكن يفكر في الزواج لاعتلال في صحته منذ شبابه ,, ولا ريب ان مي احبت جبران حباً جعل المقارنه بينه وبين الذين خطبوا ودّها أمراً مستحيلاً , برغم تردد مي في الأعراب عن مشاعرها وخشيتها في الأنطلاق على سجيتها في مراسلته , وذلك بسبب ان جبران كان يعيش في عالم متطور تحررت نساؤه من التقاليد , وحيث أن مي كانت مغلولة القلب والقلم بتأثير البيئه التي عاشت فيها .. وبرغم انها جعلت من بيتها صالوناً أدبياً يلتقي فيه كل ثلاثاء رجال الأدب والفكر امثال احمد لطفي السيد وخليل مطران وطه حسين وعباس محمود العقاد وغيرهم من الأدباء والمفكرين ...
لقد تمنى جبران ان تتحرر مي من عقدها النفسيه وشكوكها ! مي عانت صراعاً نفسياً حاداً في حبها لجبران سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والأرهاق ..وحين تجاوزت الخامسه والثلاثين من العمر لملمت كل شجاعتها وكتبت أجمل رسالة حب ..
" جبران !
لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب . ان الذين لايتاجرون بمظهر الحب ينمّي الحب في أعماقهم قوه ديناميكيه رهيبه قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في الللاء السطحي لأنهم لايقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر ,, ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها , والتلهي بما لاعلاقه له بالعاطفه , يفضلون أي غربه , وأي شقاء ( وهل من شقاء وغربه في غير وحدة القلب ؟) على الأكتفاء بالقطرات الشحيحه ..
مامعنى هذا الذي اكتبه ؟ اني لا أعرف ماذا أعني به ! ولكني أعرف انك " محبوبي " , وأني أخاف الحب , أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير .. الجفاف ةالقحط والللا شيء بالحب خير من النزر اليسير , كيف أجسر على الأفضاء اليك بهذا , وكيف أفرّط فيه ؟ لا أدري , الحمدلله اني اكتبه على ورق ولا أتلفّظ به, لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام , ولاختفيت زمناً طويلاً , فما أدعك تراني الا بعد أن تنسى .. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها احياناً لأني بها حرة كل هذه الحريه .. قلي ماأذا كنت على ضلال أو هدى .. فأني أثق بك , وأصدق بالبداهه كل ماتقول ..! وسواء كنت مخطئه فان قلبي يسير اليك , وخير مايفعل هو أن يظل حائماً حواليك , يحرسك ويحنو عليك ..
غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصت نجمه لامعه واحده هي الزهره ,, اترىيسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون ؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي , لها جبران واحد , تكتب أليه الأن والشفق يملأ الفضاء وتعلم ان الظلام يخلف الشفق وان النور يتبع الظلام وأن الليل سيخلف النهار والنهار سيتبع الليل مرات كثيره قبل أن ترى الذي تحبه ... فتتسرب اليها كل وحشة الشفق , وكل وحشة الليل , فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشه في إسم واحد : جبران !
ماري زياده
وكانت هذه الرساله تصوّر مي العاشقه أبلغ تصوير ... مما أفرح جبران بتجاوبه معها ...
وهذا الموضوع سأتناول عدة رسائل تمثّل جبران خليل جبران ومي زياده ليس فقط للروعه الأدبيه في الرسائل .. ووصف لأجمل مشاعر لحب خالد سيبقى اسطوره , بل لأنها تحتوي على ادب في فن المراسله ...
مولدها ونشأتها:
ولدت (مي) بالناصرة (فلسطين) سنة 1895م واسمها الحقيقي ماري بنت الياس زيادة صاحب جريدة المحروسة، واختارت لنفسها اسم (مي) الذي اشتهرت به في عالم الأدب، وهي من أشهر أديبات الشرق وكاتبة موهوبة وخطيبة فسيحة الباع.
تلقت دروسها الابتدائية في مدرسة عين طوره وجاء بها والدها وهي دون البلوغ إلى مصر حيث عكفت على المطالعة والتحصيل والتضلع من مختلف العلوم والفنون وعرفت من اللغات العربية والفرنسية والانكليزية والايطالية والالمانية والاسبانية، واتقنتها، فاستكملت ثقافتها وتميزت بالذهن البارع والذوق السليم.
كانت تنشر فيض قريحتها في مجلات الزهور والمقتطف والهلال وجرائد المحروسة والسياسة والرسالة، ولما سطع نجمها في سماء الأدب العربي كان يجتمع بعد ظهر الثلاثاء من كل أسبوع في دارها نخبة من العلماء والشعراء وقادة الفكر من أهل مصر، وهم يخوضون في الحديث ويتبارون في مختلف البحوث العلمية والفنية، وكانت (مي) مالكة عنانه توجه المناقشات والاحاديث بلفظها الرشيق وبيانها الناصع، وأصبحت دارها منتدى أدبياً حافلاً وكان أكثرهم تردداً عليها الشعراء اسماعيل صبري ومصطفى صادق الرافعي وولي الدين يكن، واحمد شوقي، وخليل مطران، وشبلي شميل رحمهم الله وغيرهم، وظلت دارها كدار بنت المستكفي منتدىً للنوابغ، وكانت بمواهبها وفتنتها مبعث الوحي والالهام لقرائحهم، لأنها جعلت قلوب هؤلاء النوابغ تنفعل بموحياتها الانوثية الناعمة وسحر الجمال، وقد نظم المرحوم اسماعيل صبري باشا ابياتاً نفيسة.
كان أول كتاب وضعته باسم مستعار (ايزيس كوبيا) وهو مجموعة من الاشعار باللغة الفرنسية، ثم وضعت مؤلفاتها (باحثة البادية) وكلمات وإرشادات، ظلمات وأشعة، سوانح فتاة، بين المد والجزر، الصحائف والرسائل، وردة اليازجي، عائشة تيمور، الحب في العذاب، رجوع الموجة، ابتسامات ودموع، وقامت بعدة رحلات إلى أوروبا وغذت المكتبة العربية بطائفة من الكتب الممتعة موضوعة ومنقولة وبلغت من غايتها في الأدب والعلم والفن فاستفاض ذكرها على الألسنة.
وكانت تميل إلى فني التصوير والموسيقى، وكانت إذا وضعت قصة تجعل ذكرى قديمة تثيرها رؤية لون أو منظر من المناظر، أو حادثة من الحوادث، وقد يكون إيحاءَ بما تشعر به وتراه في حياتها، فتدفعها هذه الذكرى ويستنفرها هذا الإيحاء إلى كتابة القصة، وقد تستيقظ في الفجر لتؤلف القصة، ومن عادتها أن تضع تصميماً أولياً للموضوع، ثم تعود فتصوغ القصة وتتم بناءها، وان الوقت الذي تستغرقه في كتابة القصة قد يكون ساعة أو أسابيع أو شهور حسب الظروف، وهي ترى انه ليس هناك قصص خيالية مما يكتبه القصصيون وكل ما ألفته هذه النابغة، هو واقعي كسائر ما تسمع به وتراه من حوادث الحياة، فالمؤلف القصصي لا يبدع من خياله ما ليس موجوداً، بل هو يستمد من الحياة وحوادثها، ويصور بقالبه الفني الحوادث التي وقعت للأفراد، وكل ما تكتب هو تصوير لبعض جوانب الحياة، لا وهمٌ من الأوهام لا نصيب لها من حقيقة الحياة.
لقد ظلت سنوات طويلة تغرس في القلوب أجمل الشعر وأرفع النثر وتتهادى بروائعها ومؤلفاتها في دنيا الأدب إلى أن عصفت المنية في روحها وهي في سن الكهولة المبكرة وذلك في يوم الأحد التاسع عشر من شهر تشرين الأول سنة 1941م في المعادي بمصر، وتركت وراءها مكتبة نادرة لا تزال محفوظة بالقاهرة وتراثاً أدبياً خالداً إلى الأبد.
لقيت في أواخر عهدها أشد العنت والكيد من أنسبائها، (فقد تآمروا عليها وأدخلوها العصفورية في بيروت وبقيت فيها مدة سنتين حتى أنقذها وأخرجها منه أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وقد زارها في مستشفى العصفورية دولة العلامة فارس الخوري والأمير عادل أرسلان وشاهداها لحالة عقلية تامة ولكن صحتها الجسدية ضعيفة جداً واحتجا على ما لاقته إلى مجلس النواب اللبناني.
توفيت مي زيادة بالقاهرة في (19 من أكتوبر 1941م) وبكاها الأدباء والشعراء بكاءً مريرًا.
رسائل حب
بين مي وجبران
1- من مي إلى جبران
صديقي جبران
لقد توزع في المساء بريد أوروبة وأمريكة , وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع , وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك . نعم إني تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل , ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل .
... لا أريد أن تكتب إلي إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا , ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته ! .. أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل , حتى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح , فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه .
... ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا , وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة , ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا .
مي زيادة
11 آذار 1925
2- من جبران إلى مي
لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب .. تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله ! .
هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها .
هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة .
جبران خليل جبران
9 شباط 1919
بين مي والعـقاد
1- من مي إلى العـقاد
أكتب إليك من بلد كنت دائما تعجب بشعبه , كما أعجب به أنا أيضا , ولكن إعجابي بقصيدتك البليغة في معناها ومبناها فاق كل إعجاب . وقد اغتبطت بها غبطة لا حد لها , واحتفظت بها في مكان بين أوراقي الخاصة خوفا عليها من الضياع !
إنني لا أستطيع أن أصف لك شعوري حين قرأت هذه القصيدة . وحسبي أن أقول لك إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان .
بل إنني خشيت أن أفاتحك بشعوري نحوك منذ زمن بعيد .. منذ أول مرة رأيتك فيها بدار جريدة المحروسة . الحياء منعني , وقد ظننت أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك . والآن عرفت شعورك , وعرفت لماذا لا تميل إلى جبران خليل جبران .
لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران , فإنه في نيويورك لم يرني , ولعله لن يراني , كما أني لم أره إلا في تلك الصور التي تنشرها الصحف . ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها ! .. أليس كذلك ؟! ..
معذرة .. فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة , لا لأضايقك , ولكن لأزداد شعورا بأن لي مكانة في نفسك , أهنئ بها نفسي , وأمتع بها وجداني . فقد عشت في أبيات قصيدتك الجميلة وفي كلماتها العذبة , وشعرت من معانيها الشائقة وموسيقاها الروحية ما جعلني أراك معي في ألمانيا على بعد الشقة وتنائي الديار .
سأعود قريبا إلى مصر , وستضمنا زيارات وجلسات , أفضي فيها لك بما تدخره نفسي ويضمه وجداني , فعندي أشياء كثيرة سأقولها لك في خلوة من خلوات مصر الجديدة , فإني أعرف أنك تفضل السير في الصحراء وأنا أجد فيك الإنسان الذي أراه أهلا للثقة به والاعتماد عليه.
مي زيادة
برلين 30 أغسطس 1925
2- من العـقاد إلى مي
سيدتي الآنسة
شكرك لي على الأبيات التي تفضلت بقبولها نعمة من نعم السماء وابتسامة في فم الحياة . أتمنى لك من السعادة بقدر ما بعثته في نفسي وبثته في جوانب قلبي . ولست بخيلا بالدعاء لو تعلمين حين أتمنى لك ’’ بقدر ‘‘ ما شعرت به .
... وإني أبصرك الساعة بين الماء والسماء فأشعر بوجود الله حقا , وأحس بمحضره قريبا , لأنني لا أستطيع أن أعرف قوة غيره تحمل ذلك المهد السابح الذي أتمثلك فيه طفلة وادعة في أحضان ذلك الحنان السرمدي العظيم ...
وهلا أحدثك بما أشعر به وأنا أكتب إليك من القاهرة وأنت في طريقك إلى مدينة غريبة بعيدة بموقعها بعيدة بتاريخها القديم وذكرياتها الخالدة ؟ . إني على ما بي من الشوق إلى رؤيتك وسماع صوتك لست أشعر البتة ـ وهذا ما أستغربه ـ لأنني أخط هذه السطور لتصل إليك على البعد حيث لم أكن ولم تكوني قط قبل الآن , ولا أحس فضاء بين نفسينا تتنقل فيه الرسائل ويقاس بمسافات البحار والآفاق وظلام الليل وبياض النهار . فلا مثالك بعيد مني لأنه أقرب قريب إلى حيث هو حاضر أبدا أراه ولا أرى شيئا سواه ...
وليست هذه أول مرة أذكرك فيها بين معاهد البلاد الغائبة وظلال الأزمنة القديمة . فقد ذكرتك في أسوان وذكرتك عند عرش إله النيل ومعبد إيزيس ...
فهل ستذكرينني ؟؟ إنني آمل وأتوسل . بل إنني واثق أنك ستذكرين ! واثق كل الثقة وسعيد كل السعادة بهذه الثقة الغالية . فلا تنسي يا آنسة .. واعذري ولا تشتدي علي ! .. ولك مني أعز وأصفى ما ترسله نفسي إلى نفس من تحيات الشوق والرجاء و العطف والشكر والاحترام .
عباس محمود العقاد
أول يوليو عام 1925
أسرار مي زيادة لا تزال طي الكتمان..
لماذا اختفى مخطوطها عن (ليالي العصفورية)؟
(السر الموزع) هي عبارة اختارتها الأديبة مي زيادة عنواناً للأقصوصة التي كتبتها ونشرتها في مجلة الرسالة القاهرية في عددها الرابع لعام 1935 ووقعتها باسم الآنسة مي، وهو واحد من الأسماء العديدة (كنار *عائدة) التي كانت توقع بها إنتاجها الأدبي المتعدد الأنواع والموضوعات.
لم تكشف مي في أقصوصتها ماهية السر الموزع لصاحبة الثوب (ذي الزرقة الكهربائية) وبطلة القصة ولا هويتها ولا السر الموزع للفتى الدون جوان ولا هويته، إذ تتعرض البطلة أو تعرض نفسها *لا فرق* لإحدى غراميات فتى على نمط دون جوان: سار نظره رسولاً إلى أعماق عينيها، فاهتدى هناك إلى شيء كان يطلبه، ولم تدر هي ماهيته، وكان وجهه جاداً، ونظره جاداً، شأن الرجل عندما ينبه إلى أمر هام.. فجمدت الابتسامة على شفتيها، وكأن الذي وجده فيها يسأل السر الذي بعث به نظره: (ماذا؟؟) (فخيل إليها أن سره يجيب) أردت أن أنبهك فقط.. لأنك نبهتني وأنت تعلمين، هكذا بقي السر الموزع للآنسة مي خفيا بانتظار أن يأتي من يبحث عنه.. وأتى هذا الكتاب كمحاولة أولى للبحث عن ذلك السر الموزع.
الأديبة مي زيادة هي تلك الفتاة الجميلة ساحرة الأنوثة، شرقية السمات، خفيفة الروح، التي يشع من عينيها ذكاء نادر وحزن مكبوت، تلك النجمة اللامعة في سماء الأدب العربي، ملأت عصرها بالحديث عنها، وكانت قطب الرحى ومدار الاهتمام لأدباء عصرها، وكانت قصتها قصة ذلك العصر بكل ما فيه من ألق الفكر وعمالقة الرجال، أو هي واسطة العقد بالقياس إليهم، وبما كانت عليه من جمال وذكاء ونبوغ جعلها محور الاهتمام، وحديث المهتمين بالفكر والثقافة وعالم السياسة، تعذب بحبها كل أدباء عصرها، وقد كثرت رسائلها إليهم ورسائلهم إليها، وفيها الكثير مما يثير جنبات نفوسهم، ولم تقتصر رسائلها على القريبين منها، بل امتدت إلى غيرهم مثل جبران خليل جبران الذي لم تره قط، وإن جمع بينهما وحدة المشاعر والشغف بالأدب والفكر، وبقدر ما أسعدت كل من كان يتردد على صالونها الأدبي الأسبوعي كل ثلاثاء والذي شغل أهل الثقافة في المشرق والمغرب، من كبار أدباء عصرها (خليل مطران *طه حسين *لطفي السيد * أحمد شوقي *مصطفى صادق الرافعي *الشاعر إسماعيل صبري) عاشت التعاسة والوحدة وتنكر لها الأقارب، الذين سجنوها قسراً بعد أن استدرجوها من مصر إلى لبنان بين طيات جدران صماء في مشفى للأمراض النفسية، إلى أن عادت إلى مصر التي أحبتها لتتنسم نسمات الحرية وتكمل حياتها مملوءة بالأسى والحزن والانكسار.
وقد أثارت الأسرار التي اكتنفت تلك المرحلة القائمة من حياة مي شغف الباحثين والقراء على السواء، وكلما صدر كتاب جديد عنها توقعوا أن يسلط الضوء على تجربة الحجر النفسي التي جعلتها تفقد ألقها وجمالها الخاص. لم يأت الكاتب بجديد عمن سبقه في الكتابة عن هذه الشخصية، ولاسيما حياتها العاطفية، سواء منه الحقيقي أو ما يقع ضمن الشائعات ولم يخرج عما حوته الرسائل المتبادلة بين مي وبين أعلام الأدب في مصر ولبنان، وإن الدراسات العلمية لنتاج مي بحسب المؤلف لم تكشف إلا الجزء المعروف من سيرتها، أو أنها شبه غائبة مع استثناءات قليلة جداً، الأمر الذي جعل الكتابات عنها في الجانب الوجداني من نتاجها، ربما أراد فاروق سعد أن يكشف عن العالم الحقيقي الذي عاشت فيه مي، وهو حتماً غير ذلك العالم المصطنع المتكلف الذي تناولته الكتب عن سيرة حياتها، من خلال إماطة اللثام عن الأسرار التي أحاطت بحياة مي، مستنداً في ذلك إلى المنهج العلمي والبحث الاستقرائي الاستدلالي عن معالم الحياة العاطفية في آثار مي المختلفة سواء من أبحاث ومقالات وشعر ومذكرات، وأقاصيص وسيرة ومسرح وخطب ومحاضرات، وحتى الترجمات والسيناريو، مفنداً الكثير من الآراء حولها مؤيداً ونافياً في بعض الأحايين، مدعماً حججه بالشواهد والأدلة.
لا نكران لما كان للأديبة مي من أثر في الحياة الأدبية في عصرها، سواء في قيمتها الأدبية والفنية في حد ذاتها، أم لما كان لها من أثر في شحذ همم من حولها من أدباء ومفكرين وشعراء، ويكفي دلالة على ذلك كما تذكر بعض الدراسات عنها، إن كتاب (أوراق الورد) للرافعي من وحي إلهامها، ولعل لهذا السبب كان إيثاره وتقديره له على ماعداه من كتبه وتصانيفه وإن كان إعجابه به قد انصب على موضوع واحد من موضوعات هو (سر النبوغ) الذي يقول عنه أنه وحده مجموعة لا نظير لها في الأدب العربي.
وفي رأي المؤلف، أنه سعى في السر الموزع لدحض المبالغات والمزاعم الكثيرة التي لا أساس لها حول مي، متابعاً تدقيقه في صحة الأخبار المنقولة عنها، ولاسيما علاقتها بأهل الفكر والأدب، والتي لم يتجاوز عندها حدود الثقافة والبراءة، ولعدم توافر أدلة على صدق التجاوزات العاطفية لهؤلاء الذين انطوت كتاباتهم* ومن بينها رسائلهم، خلفوها وراءهم التي لا تشوبها شائبة ظن أو شك في صدورها عن أصحابها (أحمد لطفي السيد *الدكتور زكي مبارك *طه حسين *إسماعيل صبري باشا *شبلي الملاط *شبلي شميل *أمين الريحاني)، على شطحات عاطفية، إلا أنه لا يمكن الجزم بأن يكون الأمر في نفوس هؤلاء المغرمين توقف عند هذا الحد، وفي هذا يدحض مزاعم سلامة موسى في علاقة مي مع شبلي شميل الذي كان يحب مي ويعاملها كما لو كانت طفلة، ينتقد المؤلف أعلام الأدب من الذين عاصروا مي بقوله: "وكأنهم، وحدهم دون غيرهم من فئات المجتمع يتمتعون بالمؤهلات الدونجوانية والكازانوفية التي تخولهم أن يكونوا فرسان أحلام الصبايا، وكأن لزاماً على مي أن تحصر اختيارها بفتى أحلامها أو شريك حياتها من بين هؤلاء الأدباء وحدهم دون سواهم"، لمجرد أنهم يتوهمون أو يتخيلون ذلك أن يوحون به، أو ينسب إليهم!! حتى بعد وفاة مي أطلق عدد من الكتاب مخيلتهم الخصبة في تركيب الأخبار والروايات عن غراميات مزعومة لمي، ويقول المؤلف: لو عاشت مي وقرأت الحلقات المتسلسلة (الذين أحبوا مي) التي نشرها كامل الشناوي، وما تضمنته من مزاعم عن علاقتها العاطفية بزوار صالون الثلاثاء الأدبي لأقفلت بابه في وجههم، ويتابع المؤلف حججه الناقدة باعتماده على رأي حسمت فيه الأديبة سلمى الحفار الكزبري الجدل في علاقة مي بالرافعي، مفاده أن إعجاب مصطفى صادق الرافعي بمي لا يعدو كونه اندفاعاً عاطفياً منه قابلته مي بمنتهى اللياقة والكياسة والمودة، كما هو حالها مع من عرفتهم من أهل الأدب سواء في مراسلاتها معهم أو في لقاءاتها في صالونها، شأن سلامة موسى مثلاً، بعد أن وجه انتقاداً لزعم كامل الشناوي حول ماهية مشاعر مصطفى صادق الرافعي تجاه مي أو أنه قد جن بغرامها، وكتب أوراقاً كالتميمة علقها على سارية بأعلى منزله ظناً منه أنها تجلب له قلبها وتحببها فيه، لدرجة فكر باتخاذها ضرة لزوجته، وبالنسبة للأديب الكهل ولي الدين يكن، فقد ربطت بينه وبين مي صداقة وطيدة، ولم يقف الأمر عنده حد الإعجاب بل تجاوزه، إذ وجه إليها رسائل ضمت أحياناً من التذلل إليها ما تجاوز شعره فيها، وكان يسرف في التذلل إلى حد يبدو أنه كان يتلذذ به، لاسترضائها إلى درجة التصريح بتقبيل قدميها بكل إجلال كما ورد في رسائله، دون صدود منها.. وهنا يذهب المؤلف إلى دحض أن (ولي الدين) أحب مي باشتهاء وجسارة بحسب سلسلة المقالات التي كتبها كامل الشناوي في جريدة أخبار اليوم المصرية في الخمسينيات من القرن الماضي، إذ ليس من الحب ما عبرت عنه أبيات شعر يكن الشعرية، وأوردها سعد كبرهان على ما يقوله في كتابه.
يفند المؤلف في نهاية بحثه عن السر الموزع الذي استعار عنوانه من عنوان أقصوصة مي، من وجهة نظر شخصية بقاء مي زيادة دون زواج لسببين رئيسيين أولهما، إنها لم تجد ممن عرفتهم رجلاً يقدرها ويستأهلها إلا جبران خليل جبران الذي كان يعيش في المهجر وتنصل منها كما تنصل من غيرها، فموقفه من الزواج كان سلبياً مع جميع من عرفهن من النساء انتهاء بميشيلين وتيللر وماري هاسكل التي أكدت في يومياتها أنها هي التي رفضت عرض جبران الزواج بها، وكذلك صدمة مي العاطفية في مراهقتها وفشلها في خطوبتها من ابن عمها البديل عن شقيقه (جوزيف) الذي أحبته وتخلى عنها لمتابعته دراسته الطبية العليا في فرنسا وتزوج من امرأة فرنسية.
ستظل حياة مي وأسرار الفترة التي قضتها في مستشفى الأمراض العقلية مجهولة وغامضة مادام مخطوط كتابها (ليالي العصفورية) الذي سطرت به مي تلك الفترة مفقوداً ولا يزال.