أبو حنيفة النعمان
الإمام أبو حنيفة النعمان .. الإمام
الأعظم
ولد أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80هـ من أسرة فارسية، وسمي
النعمان تيمنا بأحد ملوك الفرس...
من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب
أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل.. حاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا
عربيا.. ولكنه كان لا يحفل بهذا كله فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين
الجميع، وأن الرسول (صلى الله عليه) احتضن سلمان الفارسي وبلالا الحبشي،
وكانا من خيرة الصحابة حتى لقد كان الرسول يقول «سلمان منا أهل البيت» وكان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن بلال: «سيدنا بلال».
ولقد شهد أبو
حنيفة في طفولته فظائع الحجاج والي العراق وبطشه بكل من يعارض الأمويين حتى
الفقهاء الأجلاء، فدخل في نفسه منذ صباه عزوف عن الأمويين واستنكار
لاستبدادهم، ورفض للطغيان.. ثم إنه ورث عن أبيه وأمه حبا لآل البيت فما كان
في ذلك العصر رجال ينبذون التفرقة بين المسلمين العرب وغير العرب إلا آل
البيت.
وقد تمكن حب آل البيت من قلبه عندما تعرف على أئمتهم وتلقى عنهم،
وعندما عاين أشكال الاضطهاد التي يكابدونها في كل نهار وليل!... حتى لقد
شاهد الإمام الصادق واقفا يستمع إليه وهو يفتي في المدينة فوقف قائلا: «يا
ابن رسول الله، لا يراني الله جالسا وأنت واقف».
وكان أبوه تاجرا كبيرا
فعمل معه وهو صبي، وأخذ يختلف الى السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول
التجارة وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف الى العلماء
فقال أبو حنيفة: «إني قليل الاختلاف إليهم» فقال له الفقيه الكبير: «عليك
بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وفطنة».
ومنذ ذلك
اليوم وهب الفتى نفسه للعلم، واتصل بالعلماء ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر
يوم في حياته.. ولكم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي
استنفر كل مواهبه وذكائه وبراعته!!
***
وانطلق الفتى الأسمر الطويل
النحيل بحلة فاخرة، يسبقه عطره، ويدفعه الظمأ الى المعرفة، يرتاد حلقات
العلماء في مسجد الكوفة.. وكان بعضها يتدارس أصول العقائد (علم الكلام)،
وبعضها للأحاديث النبوية; وبعضها للفقه وأكثرها للقرآن الكريم.
ثم مضى
ينشد العلم في حلقات البصرة.
وبهرته حلقة علماء الكلام، لما كان يثور
فيها من جدل مستعر يرضي فتونه.
ولزم أهل الكلام زمنا ثم عدل عنهم الى
الحلقات الأخرى.. فقد اكتشف عندما نضج أن السلف كانوا أعلم بأصول العقائد
ولم يجادلوا فيها، فلا خير في هذا الجدل. ومن الخير أن يهتم بالتفقه في
القرآن الكريم والحديث.
وانتهت به رحلاته بين البصرة والكوفة الى العودة
الى موطنه بالكوفة، وإلى الاستقرار في حلقات الفقه، لمواجهة الأقضية
الحديثة التي استحدثت في عصره، ولدراسة طرائق استنباط الأحكام.
وكان
أبوه قد مات، وترك له بالكوفة متجرا كبيرا للحرير يدر عليه ربحا ضخما، فرأى
أبو حنيفة أن يشرك معه تاجرا آخر، ليكون لديه من الوقت ما يكفي لطلب العلم
وللتفقه في الدين ولإعمال الفكر في استنباط الأحكام...
ودرس على عدة
شيوخ في مسجد الكوفة ثم استقر عند شيخ واحد فلزمه.. حتى إذا ما ألم بالشيخ
ما جعله يغيب عن الكوفة، نصب أبا حنيفة شيخا على الحلقة حتى يعود.. وكانت
نفس أبي حنيفة تنازعه أن يستقل هو بحلقة، ولكنه عندما جلس مكان أستاذه سئل
في مسائل لم تعرض له من قبل، فأجاب عليها وكانت ستين مسألة.
وعندما عاد
شيخه عرض عليه الإجابات، فوافقه على أربعين، وخالفه في عشرين.. فأقسم أبو
حنيفة ألا يفارق شيخه حتى يموت.
ومات الشيخ وأبو حنيفة في الأربعين،
فأصبح أبو حنيفة شيخا للحلقة، وكان دارس علماء آخرين في رحلات الى البصرة
وإلى مكة والمدينة خلال الحج والزيارة،. وأفاد من علمهم، وبادلهم الرأي،
ونشأت بينه وبين بعضهم مودات، كما انفجرت خصومات.
ووزع وقته بين التجارة
والعلم.. وأفادته التجارة في الفقه، ووضع أصول التعامل التجاري على أساس
وطيد من الدين..
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو مثله الأعلى في
التجارة: حسن التعامل، والتقوى، والربح المعقول الذي يدفع شبهة الربا..
جاءته
امرأة تبيع له ثوبا من الحرير وطلبت ثمنا له مائة.. وعندما فحص الثوب قال
لها «هو خير من ذلك». فزادت مائة.. ثم زادت حتى طلبت أربعمائة، فقال لها:
«هو خير من ذلك». فقالت: أتهزأ بي؟، فقال لها: «هاتي رجلا يقومه» فجاءت
برجل فقومه بخمسمائة..
وأرادت امرأة أخرى أن تشتري منه ثوبا فقال: «خذيه
بأربعة دراهم» فقالت له: «لا تسخر مني وأنا عجوز» فقال لها: «إني اشتريت
ثوبين فبعته أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فبقي هذا الثوب على أربعة
دراهم».
وذهب الى حلقة العلم يوما، وترك شريكه في المتجر، وأعلمه أن
ثوبا معينا من الحرير به عيب خفي، وأن عليه أن يوضح العيب لمن يشتريه.
أما
الشريك فباع الثوب دون أن يوضح العيب!..
وظل ابو حنيفة يبحث عن المشتري
ليدله على العيب، ويرد إليه بعض الثمن، ولكنه لم يجده، فتصدق بثمن الثوب
كله، وانفصل عن شريكه..
بهذا الحرج كان يتعامل في تجارته مع الناس، وفي
فهمه للنصوص، وفي استنباطه للقواعد والأحكام..
وعلى الرغم من أنه كان
يكسب أرباحا طائلة، فقد كان لا يكنز المال.. فهو ينفق أمواله على الفقراء
من أصدقائه وتلاميذه.
يحتفظ بما يكفيه لنفقة عام ويوزع الباقي على
الفقراء والمعسرين.. فإذا عرف أن أحدا في ضيق، أسرع إليه، وألقى إليه بصرة
على بابه، ونبهه الى أنه وضع على بابه شيئا، ويسرع قبل أن يفتح صاحب الحاجة
الصرة..
وكان على ورعه وتقواه واسع الأفق مع المخطئين.. كان له جار
يسكر في الليل ويرفع عقيرته بالغناء:
ليوم كريهة وسداد ثغر
أضاعوني
وأي فتى أضاعوا
وكان صوت الجار يفسد الليل على أبي حنيفة.. حتى إذا كانت
ليلة سكت فيها صوت الجار السكير، فلما أصبح الصباح سأله عنه فعلم أنه في
السجن متهما بالسكر. وركب أبو حنيفة الى الوالي فأطلق سراح السكير.
وعندما
عادا معا سأله أبو حنيفة «يا فتى هل أضعناك؟» فقال له «بل حفظتني رعاك
الله».
وما زال به أبو حنيفة حتى أقلع عن الخمر. وأصبح من رواد حلقات
العلم ثم تفقه وصار من فقهاء الكوفة.
***
وكان أبو حنيفة يدعو أصحابه
الى الاهتمام بمظهرهم.. وكان إذا أقام للصلاة لبس أفخر ثيابه وتعطر، لأنه
سيقف بين يدي الله.
ورأى مرة أحد جلسائه في ثياب رثة، فدس في يده ألف
درهم وهمس: أصلح بها حالك. فقال الرجل: لست أحتاج إليها وأنا موسر وإنما هو
الزهد في الدنيا. فقال أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: إن الله يحب أن يرى
أثر نعمته على عبده؟
وكان شديد التواضع، كثير الصمت، يقتصد في الكلام،
ولا يقول إلا إذا سئل، وإذا اغلظ إليه أحد أثناء الجدال صبر عليه. وإذا
دخلت إليه امرأة تستفتيه قام من الحلقة وأسدل دونها سترا، ليحفظها من عيون
الرجال، وأجابها عما تسأل.. نبع هذا التقدير الكبير للمرأة من حبه العميق
لأمه، وحرصه الدائب على أن يرضيها، ثم من فهمه الواعي للإسلام، واتباعه
اليقظ للسنة، واجتهاداته الذكية.. وقد قاده اجتهاده الى الإفتاء بأن
الإسلام يبيح للمرأة حق تولي كل الوظائف العامة بلا استثناء.. حتى القضاء!
ولقد
كان في حرصه على إرضاء أمه. يحملها على دابة، ويسير بها الأميال، لتصلي
خلف أحد الفقهاء يرى هو نفسه أن أبا حنيفة أفضل منه، لأن الأم كانت تعتقد
بفضل ذلك الفقيه!
وكانت الأم لا ترضى بفتوى ابنها أحيانا، فتأمره أن
يحملها الى أحد الوعاظ، فيقودها اليه عن طيب خاطر.. ولقد قال لها الواعظ
يوما:. «كيف أفتيك ومعك فقيه الكوفة؟»
ومع ذلك فقد ظل أبو حنيفة حريصة
على إرضائها، لا يرد لها طلبا، حتى إذا عذب في سبيل رأيه، طلبت منه أمه أن
يتفرغ للتجارة وينصرف عن الفقه وقالت له: «ما خير علم يصيبك بهذا الضياع؟».
فقال لها: «إنهم يريدونني على الدنيا وأنا أريد الآخرة وإنني أختار عذابهم
على عذاب الله».
ولكم تحمل أبو حنيفة من عذاب!!!
كان مخالفوه في
الرأي يغرون به السفهاء والمتعصبين والمتهوسين ويدفعونهم الى اتهامه
بالكفر، الى التهجم عليه، فيقابلهم بالابتسام.
ولقد ظل أحد هؤلاء
السفهاء يشتمه، فلم يتوقف الإمام ليرد عليه، وعندما فرغ من درسه وقام، ظل
السفيه يطارده بالسباب، والإمام لا يلتفت إليه، حتى إذا بلغ داره توقف عند
باب الدار قائلا للسفيه: «هذه داري فأتم كلامك حتى لا يبقى عندك شيء أو
يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل داري»...!
***
كان خصوم أبي حنيفة
صنفين: بعض الفقهاء ممن وجدوا انصراف الناس عن حلقاتهم الى حلقة أبي حنيفة،
وحكام ذلك الزمان.
أما أعداء أبي حنيفة من الفقهاء فقد كان على رأسهم
ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة.
كان أعداؤه فقهاء للدولة في العصر الأموي،
حتى إذا جاء العصر العباسي تحولوا الى الحكام الجدد، واحتالوا عليهم
بالنفاق حتى أصبحوا هم أهل الشورى، يزينون للحكام الجدد كل ما زينوه للحكام
السابقين من طغيان عدوان وبغي واستغلال وبطش بالمعارضين.. واصطنعوا من
الآراء الفقهية، وقبلوا من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ما يسند الطبقة
الحاكمة والمستغلين، وما يصرف الناس عنهم عن أمور الدنيا، وعن سياسة
حياتهم، لينقطع الناس الى التقشف، ويتركوا مستغليهم يستبدون ويعمهون!
وكان
أبو حنيفة يحتفظ باستقلاله أمام الحكام فيحترمه الحكام... وهو يلبس أغلى
الفراء في الشتاء، ويتحلى طوال العام بثياب فاخرة، ويتعطر، ويتنعم بالطيبات
من الرزق، وبزينة الحياة التي أحلها الله لعباده...
وكان يقاوم كما
قاوم أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق من قبل بدعة تزيين التقشف والانصراف
عن هموم الحياة، وترك الأمر كله لطبقة بعينها تملك وتستغل وتحكم وتستبد!
على
أن ميل أبي حنيفة الى الأئمة من آل البيت أوغر عليه صدور الأمويين
والعباسيين على السواء.
ففي العصر الأموي قالوا «أن تكون كافرا أو مشركا
خير من أن تكون علويا»..
وفي العصر العباسي توالت المحن على العلويين،
وأبو حنيفة يفتي بأن العلويين أصحاب حق..
على أنه مال إلى العباسيين أول
الامر، وتوسم فيهم الخير، ولكنه إذ وجد الفقهاء الذين نافقوا الأمويين
وزينوا لهم العدوان، هم الذين يشيرون على الخلفاء العباسيين، أصابته خيبة
الأمل فيهم.. ثم إن العباسيين بطشوا بأبناء عمومتهم العلويين، فساء رأي أبي
حنيفة في العباسيين.
وأبو حنيفة على الرغم من سماحته لا يسكت عن خطأ
الفقهاء من الذين جعلوا كل همهم نفاق الحكام وإرضاءهم.. كان بعضهم يفتي في
المسجد الى جوار حلقة أبي حنيفة، فإذا أخطأ انبرى له أبو حنيفة يكشف ذلك
الخطأ، ويعلن الصواب على الناس.
وكاتن ينتقد أخطاء ابن أبي ليلى نقدا
أوغر عليه صدر الرجل.. حتى نقد حكما فاحش الخطأ فانفجر غضب ابن ابي ليلى..
«وذلك أن أمرأة مجنونة قالت لرجل: «يا ابن الزانيين» فأقام عليها ابن أبي
ليلى الحد في المسجد، وجلدها قائمة، وأقام عليها حدين حدا لقذف الأب وحدا
لقذف الأم.
وبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: «أخطأ ابن أبي ليلى في عدة مواضع:
أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود في المساجد. وضربها قائمة والنساء
يضربن قعودا. ولضرب لأبيه حدا ولأمه حدا ولو أن رجلا قذف جامعة ما كان عليه
غير واحد، فلا يجمع بين حدين. والمجنونة ليس عليها حد. وحد لأبويه وهما
غائبان ولم يحضرا فيدعيا».
وذهب ابن أبي ليلى الى الخليفة يشكو أبا
حنيفة، واتهمه بأنه لا يفتأ يهينه، ويظهره للناس بمظهر الجاهل، وفي ذلك
إهانة للخليفة نفسه لأن ابن أبى ليلى إنما ينوب عن الخليفة في القضاء ويحكم
بين الناس..!
وأصدر الخليفة أمرا بمنع أبي حنيفة من التعليق على أحكام
القضاة، وبمنعه من الفتوى.. حتى إذا احتاج الخليفة الى رأي في أمر معقد لا
يطمئن فيه الى فتاوى الفقهاء من متملقيه، أرسل يستفتي أبا حنيفة، فامتنع عن
الفتوى إلا أن يأذن الخليفة له في أن يفتي للناس جميعا. فأذن له.
وعاد
يفتي، وعاد ينتقد الأحكام!.
وأراد الخليفة المنصور أن يكتب عقدا محكما
فلم يسعفه الفقهاء الذين يصانعونه، فلجأ الى أبي حنيفة فأملى العقد من فوره
فأزرى الفقهاء من بطانة الخليفة بما صنعه حسدا من عند أنفسهم. ولكن
الخليفة زجرهم، وصرح بأن أبا حنيفة هو أفقه الجميع، وإن كان ليكره مواقفه
وآراءه.
وعندما وقع خلاف بين الخليفة المنصور وزوجته لأنه أراد أن يتزوج
عليها، أراد أن يحتكما الى فقيه، فرفضت الزوجة الاحتكام الى قاضي القضاة
ابن أبي ليلى أو الى تابعه شبرمة أو إلى أحد الفقهاء من بطانة المنصور!
وطلبت
أبا حنيفة.
وعندما حضر أبو حنيفة أبدى الخليفة رأيه أن من حقه الزواج
لأن الله أحل للمسلم، الزواج بأربع، والتمتع بمن يشاء من الإماء مما ملكت
يمينه.
فرد أبو حنيفة: «إنما أحل الله هذا لأهل العدل. فقمن لم يعدل
فواحدة. قال الله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة). فينبغي أن نتأدب
بأدب الله ونتعظ بمواعظه».
وضاق الخليفة بفتواه. ولكنه أخذ بها.
وخرج
أبو حنيفة الى داره. فأرسلت له زوجة الخليفة خادما ومعه مال كثير وأحمال
من الثياب الفاخرة النادرة، وجارية حسناء، وحمار مصري فاره هدايا لأبي
حنيفة.
فقال أبو حنيفة للخادم: «اقرئها سلامي. وقل لها إني ناضلت عن
ديني وقمت بذلك المقام لوجه اله. لم أرد بذلك تقربا الى أحد ولا التمست به
دنيا. ورد الجارية الحسناء والثياب والمال والحمار المصري جميعا.
كان
أبو حنيفة لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويحاول أن يواجه
بالأحكام ما يقع من أحداث، وما يتوقع حدوثه من الأقضية والحالات.
الواقع
والمتوقع هما ما كان يعني باستنباط الأحكام لمواجهتهما إن لم يجد نصا في
الكتاب أو السنة أو الإجماع.
وكان يناظر الفقهاء ببديهة حاضرة يقلب
الرأي على وجوهه، ويفترض، ويستقرئ ويستنبط، ويحسن الخلوص الى الغاية
والخلاص من المأزق، ويلزم المناظر الحجة.
وهو مع ذلك يقول: «ربما كان ما
قلته خطأ كله، لا الصواب كله».
ولقد اقتحم عليه الحلقة في يوم عدد من
الخوارج على رأسهم قائدهم وفقيههم، وكان الخوارج يقتلون مخالفيهم. وكانوا
يقتلون من أقر عليا بن أبي طالب على التحكيم. وخيره شيخ الخوارج بين التوبة
أو القتل، فسأله أبو حنيفة أن يناظره، فرضي، فقال له: فإن اختلفنا؟ قال
الخارجي: نحكم بيننا رجلا.. فضحك أبو حنيفة قائلا: أنت بهذا تجيز التحكيم.
فانصرف
عنه الخوارج وتركوه سالما.
***
وكم من مرة خرج من المأزق بسرعة
بديهته وسعة حيلته وقوة حجته..!
ولكنه لم يستطع أن يفلت من مصائد أعدائه
من المرتزقة في بلاط الأمراء...
كانت صلابته، واحترام الحكام له،
وإيثارهم إياه على الفقهاء المرتزقة من بطانتهم، تثير هؤلاء الفقهاء وتحرك
حسدهم.. فأوغروا صدور الحكام حتى أوقعوا به. وحاولوا أن يقتنصوه بفضائله.
إنه
لشجاع في الحق.. وإذن فلينصبوا له شركا من جسارته وتقواه..!
إن مواقفه
في تأييد آل البيت لتؤجج غضب الحكام عليه.
ثم كانت آراؤه تزيد سخطهم
عليه اشتعالا: فقد نادى بالرأي إن لم يكن هناك نص في الكتاب أو السنة،
واتجه استنباط الأحكام إلى إلحاق الامور غير المنصوص على أحكامها بما نص
على حكمه في حدود ما يحقق مصلحة الأمة ويتسق مع عرف البلد وعاداته، إن لم
تخالف هذه العادات والأعراف روح الشريعة أو نصوصها.
أما عن مواقفه في
تأييد آل البيت فقد أعلن أن العلويين أولى بالحكم من العباسيين، وجاهر
بالانحياز الى العلويين. ولم يكتم هذا الميل قط، وظل يذيعه بلا تهيب.!
على
أن الموقف ليس جديدا عليه. فقد أيد ثورة الإمام زيد بن علي زين العابدين
بن الحسين أيام الحكم الأموي. وسمى خروج زيد جهادا في سبيل الله، وشبه بيوم
بدر وحاول أن يخرج مع الإمام زيد،ولكن كانت لديه ودائع للناس أراد أن
يسلمها لابن أبي ليلى فرفض. ولم يجد أبو حنيفة إلا ماله يجاهد به فأرسل إلى
الإمام زيد مالا كثيرا يمير به جيشه ويقويه.
وحين ولي العباسيون أيدهم
أول الأمر ولكنهم بطشوا بمعارضيهم، وصادروا حرية الرأي، ونكلوا بالعلويين،
ونكلوا عن العدل الذي بايعهم عليه، فأعلن عدم رضاه عنهم في حلقات الدروس..
وكان
المنصور قد جمع رؤوس العلويين وسجنهم. وصادر أموالهم وأراضيهم، ثار
العلويون بقيادة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم بن عبد الله، فبعث
المنصور جيشا ضخما ليحصد العلويين.
أعلن أبو حنيفة تأييده للثورة، وبكى
مصائر العلويين بعد أن نجح المنصور في إخماد الثورة والقضاء على قائديها
وفتك بأهل المدينة المنورة الذين أيدوا الثورة..
وكان عبد الله بن
الحسين شيخ أبي حنيفة والد محمد النفس الزكية وإبراهيم في سجن المنصور يعذب
حتى الموت.
وحين مات أعلن أبو حنيفة في حلقته أن واحدا من أفضل أهل
الزمان قد استشهد في سجنه. وبكاه وأبكى عليه.
وأما آراؤه التي أشعلت سخط
الحاكم وحاشيته عليه فهي تلك التي استنبطها بالقياس حتى لقد اتهمه بعض
الفقهاء من خصومه بأنه يفضل القياس على الحديث.
وما كان هذا صحيحا فقد
رأى أبو حنيفة ظاهرة خطيرة، فأراد أن ينجو بدينه منها، وينجي معه الناس:
ذلك أنه خلال الصراعين السياسي والاجتماعي، انتشر وضع الحديث خدمة لهذا
الجانب أو ذاك، وتأييدا لهذه المصلحة أو تلك، فوقف أبو حنيفة من الحديث
موقف أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق.. وتحرى الرواة وصدقهم، وتحرى معاني
الأحاديث، ورفض منها ما يشك في صدق رواتها وتقواهم، أو ما يخالف نصا
قرآنيا، أو سنة مشهورة، أ» مقصدا واضحا من مقاصد الشريعة. وقد فحص الأحاديث
الموجودة في عصره وكانت عشرات الآلاف فلم يصح في نظره منها إلا نحو سبعة
عشر.
وذهب إلى أن القياس الصحيح يحقق مقاصد الشارع، ويجعل الأحكام أصوب
وهو خير من الاعتماد على أحاديث غير صحيحة.. وللقياس ضوابط هي تحقيق
المصلحة وهذا هو هدف الشريعة.
لقد كان تحرج أبي حنيفة وذمته وتقواه هي
العوامل التي دفعته الى الحذر في قبول الأحاديث إذا شك في صحتها على أي
نحو، وكان عليه إذن أن يجد طريقا آخر لاستنباط الأحكام الجديدة قياسا على
أحكام ثابتة في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة أو أقوال الصحابة السابقين
من أهل الفتيا كعمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود.. وكان
عبد الله ابن مسعود يفضل أن يفتي باجتهاده بدلا من أن يسند الى الرسول
(صلى الله عليه وسلم) حديثا لا يرى عين اليقين أنه حديث صحيح.
وقد جد في
عصر أبي حنيفة كثير من الحوادث والأقضية والأحوال، بعد اتساع الدولة
وتشابك الأمور، وظهور ألوان كثيرة خصبة من النشاط التجاري والاجتماعي،
وواجه الإمام هذا كله بالاجتهاد لاستنباط الأحكام التي تضبط العلاقات.
وما
كان يبتدع في قياسه كما رماه خصومه، وما كان يهدر السنة كما حاول ابن أبي
ليلى وتابعه شبرمة أن يصوراه كيدا له، بل كان منهجه هو قياس «المسألة على
أخرى ليردها الى أصل من أصول الكتاب والسنة واتفاق الأئمة.. فيجتهد». وقد
لخص هو منهجه في استنباط الأحكام في وصية لأحد تلاميذه ممن تولوا القضاء..
قال: «إذا أشكل عليك شيء فارحل إلى الكتاب والسنة والإجماع، فإن وجدت ذلك
ظاهرا فاعمل به، وإن لم تجده ظاهرا فرده الى النظائر واستشهد عليه بالأصول،
ثم اعمل بما كان الى الأصول أقرب بها أشبه».
***