رسالة الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز

رضي الله عنهما



اللهم صل و سلم و بارك على سيدنا محمد عبدك و رسولك وخليلك و على آله الطيبين الطاهرين . عدد ما في علم الله العظيم، صلاة و سلاما و بركات دائمة بدوام ملك الله العظيم

أما بعد:

اعلم يا أمير المؤمنين أن الدنيا دار ظعن و ليست بدار إقامة . و إنما أهبط إليها آدم من الجنة عقوبة . و قد يحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب . و من لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب . و لها في كل يوم صرعة . و ليست صرعة كصرعة . هي تهين من أكرمها . و تذل من أعزها . و تصرع من آثرها . و لها في كل حين قتلى . فهي كالسم يأكله من لا يعرفه و فيه حتفه . فالزاد منها تركها. والغنى منها فقرها . فكن فيها يا أمير المومنين كالمداوي جرحه . يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء . يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا فإن أهل الفضائل كان منطقهم فيها بالصواب. و مشيهم بالتواضع. مطعمهم الطيب من الرزق. مغمضي أبصارهم عن المحارم. فخوفهم في البر كخوفهم في البحر. ودعاؤهم في السراء كدعائهم في الضراء. لولا الآجال التي كتبت لهم ما تقاوت أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب. و شوقا إلى الثواب. عظم الخالق في نفوسهم. فصغر المخلوق في أعينهم .

و اعلم يا أمير المومنين أن التفكير يدعو إلى الخير و العمل به. و أن الندم على الشر يدعو إلى تركه. و ليس ما يفنى وإن كان كثيرا بأهل أن يؤثر على ما يبقى و إن كان طلبه عزيزا. و احتمال المؤنة المنقطعة التي تُعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تُعقب مؤنة باقية وندامة طويلة . فاحذر الدنيا الصارعة الخاذلة القاتلة التي قد تزينت بخدعها وقتلت بغرورها و خدعت بآمالها . فأصبحت الدنيا كالعروس المجلية . فالعيون إليها ناظرة . و القلوب عليها والهة . و النفوس لها عاشقة . و هي لأزواجها كلهم قاتلة . فلا الباقي بالماضي معتبر . و لا الآخر لما رأى من أثرها على الأول مُــزدَجَر . و لا العارف بالله المصدق له حين أخبر عنها مدَّكر . فأبت القلوبُ إلا لها حبا . و أبت النفوسُ إلا لها عشقا . و من عشق شيئا لم يلهم نفسه غيره . و لم يعقل شيئا سواه . مات في طلبه و كان آثر الأشياء عنده . فهما عاشقان طالبان مجتهدان:

فعاشق قد ظفر منها بحاجته . فاغتر و طغى و نسي و لها . فغفل عن مبتدأ خلقه. وضيع ما إليه معاده . فقلَّ في الدنيا لبثه. حتى زالت عنه قدمه . و جاءت منيته على شر ما كان حالا . و أطول ما كان فيها أملا . فعظم ندمه . و كثرت حسرته مع ما عالج من سكرته . فاجتمعت عليه سكرة الموت بكربته . و حسرة الفوت بغصته . فغير موصوف ما نزل به .

و آخر ميت مات من قبل أن يظفر منها بحاجته . فمات بغمه و كمده . و لم يدرك فيها ما طلب . و لم يرح نفسه عن التعب و النصب و اللعب .

فخرجا جميعا بغير زاد . و قدما على غير مهاد . فاحذرها الحذر كله . فإنما مثلها كمثل الحية لين مسها تقتل بسمها . فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها . و ضع عنك همومها لما قد أيقنت به من فراقها . واجعل شدة ما اشتد منها رجاء ما ترجو بعدها . و كن عند أسرِّ ما تكون منها أحذر ما تكون لها .

فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور صحبته من سرورها بما يسوؤه. و كلما ظفر منها بما يحب انقلبت عليه بما يكره . فالسار منها لأهلها غار . و النافع منها غدا ضار . و قد وصل الرخاء منها بالبلاء . و جعل البقاء فيها إلى الفناء . فسرورُها بالحزن مشوب . والناعم فيها مسلوب. وانظر يا أمير المومنين إليها نظر الزاهد المفارق . و لا تنظر نظر المبتلى العاشق الوامق . و اعلم أنها تُـزيل الثاوي بالساكن . و تفجع المترف فيها بالآمن . ولا ترجع فيها ما تولى منها و أدبر . و لا بد مما هو آت منها ينتظر . و لا يتبع ما صفا منها إلا كدر . فاحذرها فإن أمانيها كاذبة . و آمالها باطلة . و عيشها نكد . و صفوها كدر . و أنت منها على خطر . إما نعمة زائلة . و إما بلية نازلة . و إما مصيبة فادحة . و إما منية قاضية . فلقد كدرت المعيشة لمن عقل . فهو من نعيمها على خطر . و من بليتها على حذر . و من المنية على يقين . فلو كان الخالق تبارك و تعالى اسمه لم يخبر عنها بخبر . و لم يضرب لها مثلا . و لم يأمر فيها بزهد . لكانت الدنيا قد أيقظت النائم . و نبهت الغافل . فكيف وقد جاء عن الله عز و جل منها زاجر و فيها واعظ . فما لها عنده قدر . و لا لها عنده وزن من الصغر . فلهي عنده أصغر من حصاة في الحصى . و من مقدار نواة في النوى . ما خلق الله عز وجل خلقا فيما بلغنا أبغض إلى الله تبارك و تعالى منها . ما نظر إليها منذ خلقها . و لقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله عز و جل جناح بعوضة فأبى أن يتقبلها . و ما منعه من القبول لها – مع ما لا ينقصه الله عز و جل شيئا مما عنده كما وعده – إلا أنه علم أن الله عز و جل أبغض شيئا فأبغضه . و صغر شيئا فصغره . و لو قبلها كان الدليل على محبته قبوله إياها . و لكنه كره أن يخالف أمره . أو يحب ما أبغض خالقه . أو يرفع مما وضع مليكه . ولا تأمن من أن يكون هذا الكلام عليك حجة، نفعنا الله و إياك بالموعظة و السلام عليك و رحمة الله .