)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) (الكهف:97)
قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا } و"ما استطاعوا" معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {ما لم تستطع } و{مالم تستطع).( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
***
)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف:98)
قوله تعالى: { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } قالها ذو القرنين وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله عز وجل وإلى فضله، ولهذا لما قالت النملة حين أقبل سليمان بجنوده على وادي النمل، قامت خطيبة فصيحة: ) يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يشعرون (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19، أيضاً ذو القرنين رحمه الله قال:
{ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } وليس بحولي ولا قوتي، ولكنه رحمة به ورحمة بالذين طلبوا منه السد، أن حصل هذا الردم المنيع.
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) يعني بخروج هؤلاء المفسدين.
( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) يعني جعل هذا السد دكّاً، أي: منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا" [1][49]. يعني شيء يسير لكن ما ظهر فيه الشق لا بد أن يتوسع.
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) فما هو هذا الوعد؟
الجواب: الوعد هو أن الله سبحانه وتعالى يخرجهم في آخر الزمان، وذلك بعد خروج الدجال وقتله يخرج الله هؤلاء، يخرجهم في عالم كثير مثل الجراد أو أكثر "فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِ مَرَّةً مَاءٌ" ثم "يُحصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ" في جبل الطور، ويلحقهم مشقة ويرغبون إلى الله تعالى في هلاك هؤلاء، "فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" يصبحون في ليلة واحدة على كثرتهم، ميتين مِيتة رجل واحد، حتى تنتن الأرض من رائحتهم، فيرسل الله تعالى أمطاراً تحملهم إلى البحر أو يرسل اللهُ طيوراً فَتَحْمِلُهُمْ إلى البحر[2][50] ، والله على كل شيء قدير، وهذه الأشياء نؤمن بها كما أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أما كيف تصل الحال إلى ذلك، فهذا أمره إلى الله عز وجل
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) يعني وعد الله تعالى في خروجهم كان { حَقّاً } أي: لا بد أن يقع كل ما وعد الله بشيء فلا بد أن يقع؛ لأن عدم الوفاء بالوعد، إما أن يكون عن عجز، أو إما أن يكون عن كذب، والله والله عز وجل منَزَّهٌ عنهما جميعاً عن العجز، وعن الكذب، فهو عز وجل لا يخلف الميعاد لكمال قدرته، وكمال صدقه.
***
)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) (الكهف:99)
قوله تعالى: {)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } المفسرون الذين رأيت كلامهم يقولون: { يَوْمَئِذٍ } يعني إذا خرجوا صار "يموج بعضهم في بعض"، ثم اختلفوا في معنى "يموج بعضهم في بعض" هل معناه أنهم يموجون مع الناس، أو يموج بعضهم في بعض يتدافعون عند الخروج من السد؟ وإذا كان أحد من العلماء يقول:
)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني بعد السد، صاروا هم بأنفسهم يموج بعضهم في بعض، فإن كان أحدٌ يقول بهذا، فهو أقرب إلى سياق الآية، لكن الذي رأيته أنهم يموج بعضهم في بعض يعني إذا خرجوا، { {)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي: يومئذْ يريد الله عز وجل خروجهم.
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) النافخ إسرافيل أحد الملائكة الكرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بهذا الاستفتاح: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم"[3][51] ، هؤلاء الثلاثة الملائكة الكرام، كل واحد منهم موكل بما فيه الحياة، جبريل موكل بما فيه حياة القلوب، ميكائيل بما فيه حياة النبات وهو القَطْر، والثالث إسرافيل بما فيه حياة الناس عند البعث، ينفخ في الصور نفختين. الأولى: فَزعٌ وصعق، ولا يمكن الآن أن ندرك عظمة هذا النفخ، نفخ تفزع الخلائق منه وتصعق بعد ذلك، كلهم يموتون إلاَّ من شاء الله، لشدة هذا النفخ وشدة وقعه، ما يمكن أن نتصور لأن الناس يفزعون، بل فزع من في السموات ومن في الأرض ثم يصعقون - الله أكبر -. شيء عظيم كلما يتصوره الإنسان، يقشعر جلده من عظمته وهوله.
النفخة الثانية: يقول الله عز وجل : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68 .
النفخة الثانية يقوم الناس من قبورهم أحياء ينظرون، ماذا حدث؟! لأن الأجسام في القبور، يُنْزِل الله تعالى عليها مطراً عظيماً ثم تنمو في داخل الأرض [4][52]، حتى إذا تكاملت الأجسام تكاملها التام نفخ في الصور نفخة البعث: (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر: الآية68).
(فَجَمَعْنَاهُمْ ) أي: جمعنا الخلائق { جَمْعاً } أي: جمعاً عظيماً، فهذا الجمع يشمَل: الإنس، والجن، والملائكة، والوحوش، وجميع الدواب، قال الله تبارك وتعالى: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) كل الخلائق، حتى الملائكة - ملائكة السماء - كما قال الله : )وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) . يا له من مشهد عظيم، الله أكبر.
***
)وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً) (الكهف:100)
)وَعَرَضْنَا (أي عرضناها لهم فتكون أمامهم - اللّهم أجرنا منها -.
) جَهَنَّمَ ) اسم من أسماء النار.
)عَرَضْنَا) يعني عرضاً عظيماً، ولذلك نُكِّر يعني عرضاً عظيماً تتساقط منه القلوب، ومن الحكم في إخبار الله عز وجل بذلك أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وأن يخاف من هذا اليوم، وأن يستعد له، وأن يصور نفسه وكأنه تحت قدميه، كما قال الصِّديق رضي الله عنه :
[ كلنا مصبَّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله ] فتصور هذا وتصور أنه ليس بينك وبينه، إلاَّ أن تخرج هذه الروح من الجسد، وحينئذ ينتهي كل شيء.
***
)الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف:101)
قوله تعالى: { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } هؤلاء الكافرون كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، لا ينظرون إلى ذكر الله، وقد ذكر الله تعالى فيما سبق - في نفس السورة - أنَّ )عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(الكهف: الآية57) فالقلوب، والأبصار، والأسماع كلها مغلقة.
( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) هل المراد لا يريدون؟ كقوله تعالى: ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء)(المائدة: الآية112)، أي: هل يريد؟ أو المعنى أنهم لا يستطيعون { سَمْعاً } أي سمع الإجابة، وليس سمع الإدراك؟
الجواب: يحتمل المَعْنَــيَيْن جميعاً، وكلاهما حق.
)أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (الكهف:102)
قوله تعالى: {)أَفَحَسِبَ } أي: أفظن { الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } من هم عباده؟
الجواب: كل شيء فهو عبد الله: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)
ومن الذي اتُّخِذَ ولياً من دون الله، أي: عُبد من دون الله؟
الجواب: عبدت الملائكة، عبدت الرسل، وعبدت الشمس، وعبد القمر، وعبدت الأشجار، وعبدت الأحجار، وعبدت البقر! نسأل الله العافية، الشيطان يأتي ابن آدم من كل طريق.
( مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) يعني أربابا يدعونهم ويستغيثون بهم وينسون ولاية الله عز وجل يعني أيظن هؤلاء الذين فعلوا ذلك أنهم يُنصرون؟
الجواب: لا، لا يُنصرون، ومن ظن ذلك فهو مُخَبَّل في عقله.
( إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) يعني أن الله هيأ النار { نُزُلاً} للكافرين، ومعنى النُّزُل ما يقدمه صاحب البيت للضيف، ويحتمل أن يكون بمعنى المنْزِل، وكلاهما صحيح، فهم نازلون فيها، وهم يعطونها كأنها ضيافة، وبئست الضيافة.
***
)قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (الكهف:103)
قوله تعالى: { )قُلْ } أي يا محمد للأمة كلها: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)
الجواب: نعم.
نريد أن نُخبَر عن الأخسرين أعمالاً، حتى نتجنب عمل هؤلاء، ونكون من الرابحين، وقد بين الله تعالى في سورة العصر أن كل إنسان خاسر، إِلاَّ من اتصف بأربع صفات:
1 - الذين آمنوا.
2 - وعملوا الصالحات.
3 - وتواصوا بالحق.
4 - وتواصوا بالصبر.
وهنا يقول:
***
)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104)
قوله تعالى: { )الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني ضاع سعيهم وبَطل في الحياة الدنيا لكنهم:
{ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } فَغُطي عليهم الحق – والعياذ بالله – وظنوا وهم على باطل أن الباطل هو الحق، وهذا كثير، فاليهود مثلاً يظنون أنهم على حق، والنصارى يظنون أنهم على حق، والشيوعيون يظنون أنهم على حق، كل واحد منهم يظن أنه على حق، ولذلك مكثوا على ما هم عليه، ومنهم من يعلم أنه ليس على حق، لكنه – والعياذ بالله – لاستكباره واستعلائه أصر على ما هو عليه.
***
)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)
(الكهف:105)
قوله تعالى: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } الكونية أو الشرعية؟
الظاهر كلتاهما، لكن الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم،كذبوا بالآيات الشرعية، ولم يكذبوا بالآيات الكونية، والدليل أن الله تعالى أخبر أنهم إذا سُئلوا: من خلق السموات والأرض؟ يقولون: الله - -، ولا أحد منهم يدعي أن هنالك خالقاً آخر مع الله، لكنهم كذبوا بالآيات الشرعية، كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كذبوا بما جاء به، فهم داخلون في الآية.
( وَلِقَائِهِ ) أي: كذبوا بلقاء الله، ومتى يكون لقاء الله؟
الجواب: يكون يوم القيامة، فهؤلاء كذبوا بيوم القيامة وجادلوا، وأُروا الآيات ولكنهم أصروا، قال الله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً) (يّـس:78) يكذبنا فيه فقال: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] تَحَدٍّ! من يحييها؟ رميم لا فيها حياة ولا شيء؟
)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79)
ومن الذي أنشأها أوّل مرة؟
الجواب: هو الله، والإعادة أهون من الابتداء كما قال الله عز وجل : )وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(الروم: الآية27)هذا دليل، إذاً الدليل على إمكان البعث، وإحياء العظام وهي رميم:
1 - أن الله تعالى ابتدأها ، ولما قال زكريا حين بُشِّر بالولد وكان قد بلغ في الكِبَر عتيا، إن امرأته عاقر، قال الله تعالى: )قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم:9) ، فالذي خلقك من قبل، وأنت لم تكن شيئاً قادر على أن يجعل لك ولداً.
2 - ) وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(يّـس: الآية79)وإذا كان الله بكل خلق عليماً، فإنه لن يتعذر عليه أن يخلق ما يشاء، من الذي يمنعه إذا كان عليماً بكل خلق؟
الجواب: لا أحد يمنعه.
3 - )الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يّـس:80) شجر أخضر يخرج منه نار، فالشجر الأخضر يضرب بالزند ثم ينقدح ناراً، وكان العرب يعرفون هذا، فالذي يخرج هذه النار، وهي حارة يابسة من غصن رطب بارد، يعني متضادان غاية التضاد، قادر على أن يخلق الإنسان، أو أن يعيد خلق العظام وهي رميم، ثم حقق هذه النار بقوله: { (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ )
4 - )أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يّـس:81)
الجواب: بلى، قال الله تعالى: )لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر:57) فالذي خلق السموات والأرض بِكِبَرِهَا، وعظمها قادر على أن يعيد جزءاً من لا شيء بالنسبة للأرض، من أنت يا ابن آدم بالنسبة للأرض؟ لا شيء، أنت خلقت منها، أنت بعض يسير منها، فالذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على أن يخلق مثلهم، قال الله تعالى مجيباً نفسه: ) بَلَى)(يّـس: الآية81).
5 - )وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(يّـس: الآية81)الخلَّاق صيغة مبالغة، وإن شئت فاجعلها نسبة، يعني أنه موصوف بالخلق أزلا وأبدا، وهو تأكيد لقوله قبل: {وهو بكل خلق عليم } [يس: 79 .
6 - )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82)لا يحتاج إلى عمال ولا بنَّائين ولا أحد كن فيكون }؛ ولهذا قال : )إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يّـس:53)
كلمة واحدة.
7 - )فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (يّـس:83)
كل شيء فبيده ملكوته عز وجل يتصرف كما يشاء، فنسأله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم.
8 - { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83] فهذا هو الدليل الثامن. وإنما كان دليلاً؛ لأنه لولا رجوعنا إلى الله عز وجل لكان وجودنا عبثاً، وهذا ينافي الحكمة، فتأمل سياق هذه الأدلة الثمانية في هذا القول الموجز، ومع ذلك ينكرون لقاء الله.
في قوله: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } إلزام لهم بالإيمان؛ لأنه كونه ربهم عز وجل يجب أن يطيعوه وأن يؤمنوا به، لكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن.
( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني بَطَلَت ولم ينتفعوا بها، حتى لو أن الكافر أحسن وأصلح الطرق وبنى الرُّبط، وتصدق على الفقراء فإن ذلك لا ينفعه، إن أراد الله أن يثيبه عجل الله له الثواب في الدنيا، أما في الآخرة فلا نصيب له، نعوذ بالله نسأل الله الحماية والعافية، لأن أعماله حبطت، ولكن هل يحبط العمل بمجرد الردة أم لا بد من شرط؟
الجواب: لا بد من شرط، وهو أن يموت على ردته، قال الله تعالى: ) وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(البقرة: الآية217). أما لو ارتد، ثم مَنَّ الله عليه بالرجوع إلى الإسلام، فإنه يعود عليه عمله الصالح السابق للردة.
( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) يعني أنه لا قدر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كناية عن سقوط مرتبتهم عند الله عز وجل .
وقيل: إن المعنى أننا لا نزنهم، لأن الوزن إنما يحتاج إليه لمعرفة ما يترجح من حسنات أو سيئات، والكافر ليس له عمل حتى يوزن، ولكن الصحيح أن الأعمال توزن كُلَّها، قال الله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) )فَهُوَ فِي عِيشَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ) (القارعة:11) . فيقام الوزن؛ لإظهار الحجة عليه، والمسألة هذه فيها خلاف.
***
)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (الكهف:106)
قوله تعالى: { )ذَلِكَ } يعني ذلك المذكور من أنه لا يقام لهم الوزن وأن أعمالهم تكون حابطة.
( جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) الباء للسببية و(ما) مصدرية وتقدير الكلام: بكفرهم.
( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) قوله: { وَاتَّخَذُوا } معطوفة على { كَفَرُوا } أي: بما كفروا واتخذوا، فهم - والعياذ بالله - كفروا وتعدى كفرهم إلى غيرهم، صاروا يستهزئون بالآيات، ويستهزئون بالرسل، ولم يقتصروا على كفرهم بالله.
( هُزُواً ) أي: محلَّ هُزؤ، يسخرون منهم، ولهذا قال الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: )وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً)(الانبياء: الآية36): ) أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً)(الفرقان: الآية41)والاستفهام هنا لا يخفى أنه للتحقير، أهذا الرسول! )إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا)(الفرقان: الآية42). أعوذ بالله؛ يفتخرون أنهم صبروا على آلهتهم وانتصروا لها.
ثم ذكر ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فقال:
***
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)
بدل ما كانت جهنم نزلا للكافرين، صارت جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، لكن بشرطين:
1 - الإيمان 2 - العمل الصالح. والإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، وقد يراد به أيضاً عمل القلب، كالتوكل والخوف والإنابة والمحبة، وما أشبه ذلك.
و{ الصَّالِحَاتِ } هي التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.
ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلاَّ بهذا، الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك؛ فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردوداً عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"[5][53] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"[6][54] . أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله؟
الجواب: لشريعة الله أحسن، إلاَّ إذا أريد بالمتابعة لرسول الله، الجنس، دون محمد صلى الله عليه وسلم فنعم، لأن المؤمنين من قوم موسى وقوم عيسى يدخلون في هذا.
( كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) قوله: { كَانَتْ لَهُمْ } هل المراد بالكينونة هنا الكينونة الماضية، أو المراد تحقيق كونها نزلاً لهم؟ كقوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما }؟ نقول: الأمران واقعان، فكانت في علم الله نزلا لهم، وكانت نزلا لهم على وجه التحقيق؛ لأن "كان" قد يسلب منها معنى الزمان، ويكون المراد بها التحقيق.
( جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) هل هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أو لأن الفردوس هو أعلى الجنَّات، والجنَّات الأُخرى تحته؟
الجواب: الظاهر الثاني لأنه ليس جميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات ليسوا كلهم في الفردوس، بل هم في جنات الفردوس، والفردوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ"[7][55] أعلى الجنة ووسط الجنة معناه أن الجنة مثل القبَّة، وفيه أيضاً وصف رابع: ومنه تفجر أنهار الجنة.
***
)خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)
قوله تعالى: { )خَالِدِينَ فِيهَا } أبداً، ولا نزاع في هذا بين أهل السنة.
( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) أي لا يطلبون عنها بدلاً، { حِوَلاً } أي: تحولا؛ لأن كل واحد راضٍ بما هو فيه من النعم، وكل واحد لا يرى أن أحداً أكمل منه، وهذا من تمام النعيم، أنت مثلاً لو نزلت قصراً منيفاً فيه من كل ما يبهج النفس، ولكنك ترى قصر فلان أعظم منه، هل يكمل سرورك؟
الجواب: من يريد الدنيا لا يكمل سروره، لأنه يرى أن غيره خير منه، لكن في الجنة، وإن كان الناس درجات، لكن النازل منهم - وليس فيهم نازل - يرى أنه لا أحد أنعم منه، عكس أهل النار، أهل النار يرى الواحد منهم أنه لا أحد أشد منه، وأنه أشدهم عذاباً.
( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ) يعني لو قيل للواحد: هل ترغب أن نجعلك في مكان آخر غير مكانك لقال: "لا"، وهذا من نعمة الله على الإنسان أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله عز وجل وأن يطمئن ولا يقلق.
***
)قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)
قوله تعالى: { )قُلْ } أي: يا محمد: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً } يعني حبراً يكتب به ( لِكَلِمَاتِ رَبِّي )
( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل، لأنه المدبر لكل الأمور، وبكلمة {كن } لا نَفاد لكلامه عز وجل، بل أن في الآية الأخرى { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } ، أي: لو كان أقلاماً ) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان:27) . لَنَفِد البحر وتكسرت الأقلام وكلمات الله - جلَّ وعلا - باقية.
( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) يعني زيادة، فإن كلمات الله لا تنفد، وفي هذا نص صريح على إثبات كلام الله عز وجل، وكلمات الله عز وجل كونية، وشرعية، أما الشرعية فهو ما أوحاه إلى رسله، وأما الكونية فهي ما قضى به قَدَرهُ )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82) ، وكل شيء بإرادته، إذاً فهو يقول لكل شيء { كُنْ فَيَكُونُ }، ومن الكلمات الشرعية ما أوحاه عز وجل إلى من دون الرسل، كالكلمات التي أوحاها إلى آدم، فإن آدم عليه الصلاة والسلام، نبي وليس برسول، وقد أمره الله ونهاه، والأمر والنهي كلمات شرعية.
***
)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)
قوله تعالى: { )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } يعني أعلن للملأ أنك لست ملكاً، وأنك من جنس البشر { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وذِكر المثلية لتحقيق البشرية، أي: أنه بشر لا يتعدى البشرية، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يغضب كما يغضب الناس، وكان صلى الله عليه وسلم يمرض كما يمرض الناس، وكان يجوع كما يجوع الناس، وكان يعطش كما يعطش الناس، وكان يتوقى الحر كما يتوقاها الناس، وكان يتوقى سهام القتال كما يتوقاها الناس، وكان ينسى كما ينسى الناس، كل الطبيعة البشرية ثابتة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وكان له ظِلٌ كما يكون للناس.
أمّا من زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُورَاني، ليس له ظل فهذا كذب بلا شك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر له ظل ويستظل أيضاً، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، لنقل هذا نقلاً متواتراً؛ لأنه من آيات الله عز وجل إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثل الناس، وهل يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب للناس نفعاً أو ضراً؟
الجواب: لا، كما أمره الله عز وجل أن يقول: )قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (الجـن:21) ، ومن العجب أن أقواماً لا يزالون موجودين، يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يتعلقون بالله عز وجل إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقشعرت جلودهم، وإذا ذكر الله كأن لم يُذكر! حتى إن بعضهم يؤثر أن يحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحلف بالله عز وجل وحتى إن بعضهم يرى أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أفضل من زيارة الكعبة، ولقد شاهدت أناساً حُجزوا عن المدينة في أيام الحج لقرب وقت الحج، لأنه إذا قرب وقت الحج منعوهم من الذهاب إلى المدينة، لئلَّا يفوتهم الحج، يبكي! يقول: أنا منعت من الأنوار، ومنعت من كذا وكذا ويعدد ما نسيته الآن، فيقال له: أنت لماذا جئت؟ قال: جئت لمشاهدة الأنوار كأنه ما جاء إلا لزيارة المدينة، ونسي أنه جاء ليؤدي فريضة الحج، وسبب ذلك الجهل؛ وأن العلماء لا يبينون للعامة، وإلاّ فالعامي عنده عاطفة جياشة لو أنه أخبر بالحق لرجع إليه.
( يُوحَى إِلَيَّ ) هذا هو الميزة للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يوحى إليه، وغيره لا يوحى إليه، إلاَّ إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) هذه الجملة حصر، كأنه قال: لا إله إلا واحد، واستفدنا أنها للحصر من "إنَّما"؛ لأن كلمة "إنما" من أدوات الحصر، تقول: "إنما زيد قائم" يعني ليس له وصف غير القيام، وتقول: "إنما العلم بالتعلم" وليس هناك طريق للعلم إلاَّ بالتعلم.
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي: يُأمِّل أن يلقى الله عز وجل ويؤمن بذلك.
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ) دعوة يسيرة سهلة، أتريد أن تلقى ربك وقلبك مملوء بالرجاء؟ إذا كان كذلك
{ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }. كل إنسان عاقل يرجو لقاء الله عز وجل ولقاء الله عز وجل ليس ببعيد، قال الله تعالى: )مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5). قال بعض العلماء: إن قوله { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } بمعنى قولِهم "كل آتٍ قريب".
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )إذا قال قائل: ألستم قررتم أن العمل الصالح، لا بد فيه من إخلاص ومتابعة؟ قلنا: بلى، لكنه لما كان الإخلاص ذا أهمية عظيمة ذكره تخصيصاً بعد دخوله ضمن قوله: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً }.
وتأمل قوله: { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } ليتبين لك أنه جلَّ وعلا حقيق بأن لا يشرَك به؛ لأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع المخلوقات، إننا نقول بقلوبنا وألسنتنا: "ربنا الله" ونسأل الله تعالى الاستقامة حتى ندخل في قوله تعالى
)إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)
والحمد لله الذي وفقنا لإكمال هذه السورة، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1][49] متفق عليه. البخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، (3346). مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: اقتراب الفتنة، وفتح ردم يأجوج ومأجوج، (2880)، (2).
[2][50] جزء من حديث طويل رواه مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، (110) وغيره.
[3][51] رواه مسلم: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (770)، (200) وغيره.
[4][52] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون قال أربعون يوما . قال: أبيت قال : أربعونشهرا قالك أبيت قال أربعون سنة قال أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا، وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيام" متفق عليه. البخاري: كتاب: التفسير، باب: (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا)، (4935). مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (2955).
[5][53] رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غيره الله، (2985)، (46) وغيره.
[6][54] أخرجه مسلم، كتاب: الأقضية ، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، (1718)، (17).
[7][55] رواه البخاري: كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل، (2790).
قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا } و"ما استطاعوا" معناهما واحد، وسبق في قصة موسى مع الخضر {ما لم تستطع } و{مالم تستطع).( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) يعني أن يصعدوا عليه؛ لأنه عالٍ؛ ولأن الظاهر أنه أملس، فهم لا يستطيعون أن يصعدوا عليه.
( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟
الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج.
***
)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف:98)
قوله تعالى: { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } قالها ذو القرنين وانظر إلى عباد الله الصالحين، كيف لا يسندون ما يعملونه إلى أنفسهم، ولكنهم يسندونه إلى الله عز وجل وإلى فضله، ولهذا لما قالت النملة حين أقبل سليمان بجنوده على وادي النمل، قامت خطيبة فصيحة: ) يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يشعرون (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل:19، أيضاً ذو القرنين رحمه الله قال:
{ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } وليس بحولي ولا قوتي، ولكنه رحمة به ورحمة بالذين طلبوا منه السد، أن حصل هذا الردم المنيع.
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) يعني بخروج هؤلاء المفسدين.
( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) يعني جعل هذا السد دكّاً، أي: منهدماً تماماً وسواه بالأرض، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا" [1][49]. يعني شيء يسير لكن ما ظهر فيه الشق لا بد أن يتوسع.
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) فما هو هذا الوعد؟
الجواب: الوعد هو أن الله سبحانه وتعالى يخرجهم في آخر الزمان، وذلك بعد خروج الدجال وقتله يخرج الله هؤلاء، يخرجهم في عالم كثير مثل الجراد أو أكثر "فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُون: لَقَدْ كَانَ بِهَذِ مَرَّةً مَاءٌ" ثم "يُحصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ" في جبل الطور، ويلحقهم مشقة ويرغبون إلى الله تعالى في هلاك هؤلاء، "فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" يصبحون في ليلة واحدة على كثرتهم، ميتين مِيتة رجل واحد، حتى تنتن الأرض من رائحتهم، فيرسل الله تعالى أمطاراً تحملهم إلى البحر أو يرسل اللهُ طيوراً فَتَحْمِلُهُمْ إلى البحر[2][50] ، والله على كل شيء قدير، وهذه الأشياء نؤمن بها كما أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أما كيف تصل الحال إلى ذلك، فهذا أمره إلى الله عز وجل
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ) يعني وعد الله تعالى في خروجهم كان { حَقّاً } أي: لا بد أن يقع كل ما وعد الله بشيء فلا بد أن يقع؛ لأن عدم الوفاء بالوعد، إما أن يكون عن عجز، أو إما أن يكون عن كذب، والله والله عز وجل منَزَّهٌ عنهما جميعاً عن العجز، وعن الكذب، فهو عز وجل لا يخلف الميعاد لكمال قدرته، وكمال صدقه.
***
)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) (الكهف:99)
قوله تعالى: {)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } المفسرون الذين رأيت كلامهم يقولون: { يَوْمَئِذٍ } يعني إذا خرجوا صار "يموج بعضهم في بعض"، ثم اختلفوا في معنى "يموج بعضهم في بعض" هل معناه أنهم يموجون مع الناس، أو يموج بعضهم في بعض يتدافعون عند الخروج من السد؟ وإذا كان أحد من العلماء يقول:
)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني بعد السد، صاروا هم بأنفسهم يموج بعضهم في بعض، فإن كان أحدٌ يقول بهذا، فهو أقرب إلى سياق الآية، لكن الذي رأيته أنهم يموج بعضهم في بعض يعني إذا خرجوا، { {)وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ } أي: يومئذْ يريد الله عز وجل خروجهم.
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) النافخ إسرافيل أحد الملائكة الكرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل بهذا الاستفتاح: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم"[3][51] ، هؤلاء الثلاثة الملائكة الكرام، كل واحد منهم موكل بما فيه الحياة، جبريل موكل بما فيه حياة القلوب، ميكائيل بما فيه حياة النبات وهو القَطْر، والثالث إسرافيل بما فيه حياة الناس عند البعث، ينفخ في الصور نفختين. الأولى: فَزعٌ وصعق، ولا يمكن الآن أن ندرك عظمة هذا النفخ، نفخ تفزع الخلائق منه وتصعق بعد ذلك، كلهم يموتون إلاَّ من شاء الله، لشدة هذا النفخ وشدة وقعه، ما يمكن أن نتصور لأن الناس يفزعون، بل فزع من في السموات ومن في الأرض ثم يصعقون - الله أكبر -. شيء عظيم كلما يتصوره الإنسان، يقشعر جلده من عظمته وهوله.
النفخة الثانية: يقول الله عز وجل : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68 .
النفخة الثانية يقوم الناس من قبورهم أحياء ينظرون، ماذا حدث؟! لأن الأجسام في القبور، يُنْزِل الله تعالى عليها مطراً عظيماً ثم تنمو في داخل الأرض [4][52]، حتى إذا تكاملت الأجسام تكاملها التام نفخ في الصور نفخة البعث: (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر: الآية68).
(فَجَمَعْنَاهُمْ ) أي: جمعنا الخلائق { جَمْعاً } أي: جمعاً عظيماً، فهذا الجمع يشمَل: الإنس، والجن، والملائكة، والوحوش، وجميع الدواب، قال الله تبارك وتعالى: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) كل الخلائق، حتى الملائكة - ملائكة السماء - كما قال الله : )وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) . يا له من مشهد عظيم، الله أكبر.
***
)وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً) (الكهف:100)
)وَعَرَضْنَا (أي عرضناها لهم فتكون أمامهم - اللّهم أجرنا منها -.
) جَهَنَّمَ ) اسم من أسماء النار.
)عَرَضْنَا) يعني عرضاً عظيماً، ولذلك نُكِّر يعني عرضاً عظيماً تتساقط منه القلوب، ومن الحكم في إخبار الله عز وجل بذلك أن يصلح الإنسان ما بينه وبين الله، وأن يخاف من هذا اليوم، وأن يستعد له، وأن يصور نفسه وكأنه تحت قدميه، كما قال الصِّديق رضي الله عنه :
[ كلنا مصبَّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله ] فتصور هذا وتصور أنه ليس بينك وبينه، إلاَّ أن تخرج هذه الروح من الجسد، وحينئذ ينتهي كل شيء.
***
)الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (الكهف:101)
قوله تعالى: { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي } هؤلاء الكافرون كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، لا ينظرون إلى ذكر الله، وقد ذكر الله تعالى فيما سبق - في نفس السورة - أنَّ )عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(الكهف: الآية57) فالقلوب، والأبصار، والأسماع كلها مغلقة.
( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) هل المراد لا يريدون؟ كقوله تعالى: ) هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء)(المائدة: الآية112)، أي: هل يريد؟ أو المعنى أنهم لا يستطيعون { سَمْعاً } أي سمع الإجابة، وليس سمع الإدراك؟
الجواب: يحتمل المَعْنَــيَيْن جميعاً، وكلاهما حق.
)أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (الكهف:102)
قوله تعالى: {)أَفَحَسِبَ } أي: أفظن { الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } من هم عباده؟
الجواب: كل شيء فهو عبد الله: )إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:93)
ومن الذي اتُّخِذَ ولياً من دون الله، أي: عُبد من دون الله؟
الجواب: عبدت الملائكة، عبدت الرسل، وعبدت الشمس، وعبد القمر، وعبدت الأشجار، وعبدت الأحجار، وعبدت البقر! نسأل الله العافية، الشيطان يأتي ابن آدم من كل طريق.
( مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) يعني أربابا يدعونهم ويستغيثون بهم وينسون ولاية الله عز وجل يعني أيظن هؤلاء الذين فعلوا ذلك أنهم يُنصرون؟
الجواب: لا، لا يُنصرون، ومن ظن ذلك فهو مُخَبَّل في عقله.
( إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) يعني أن الله هيأ النار { نُزُلاً} للكافرين، ومعنى النُّزُل ما يقدمه صاحب البيت للضيف، ويحتمل أن يكون بمعنى المنْزِل، وكلاهما صحيح، فهم نازلون فيها، وهم يعطونها كأنها ضيافة، وبئست الضيافة.
***
)قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (الكهف:103)
قوله تعالى: { )قُلْ } أي يا محمد للأمة كلها: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)
الجواب: نعم.
نريد أن نُخبَر عن الأخسرين أعمالاً، حتى نتجنب عمل هؤلاء، ونكون من الرابحين، وقد بين الله تعالى في سورة العصر أن كل إنسان خاسر، إِلاَّ من اتصف بأربع صفات:
1 - الذين آمنوا.
2 - وعملوا الصالحات.
3 - وتواصوا بالحق.
4 - وتواصوا بالصبر.
وهنا يقول:
***
)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:104)
قوله تعالى: { )الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني ضاع سعيهم وبَطل في الحياة الدنيا لكنهم:
{ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } فَغُطي عليهم الحق – والعياذ بالله – وظنوا وهم على باطل أن الباطل هو الحق، وهذا كثير، فاليهود مثلاً يظنون أنهم على حق، والنصارى يظنون أنهم على حق، والشيوعيون يظنون أنهم على حق، كل واحد منهم يظن أنه على حق، ولذلك مكثوا على ما هم عليه، ومنهم من يعلم أنه ليس على حق، لكنه – والعياذ بالله – لاستكباره واستعلائه أصر على ما هو عليه.
***
)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)
(الكهف:105)
قوله تعالى: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } الكونية أو الشرعية؟
الظاهر كلتاهما، لكن الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم،كذبوا بالآيات الشرعية، ولم يكذبوا بالآيات الكونية، والدليل أن الله تعالى أخبر أنهم إذا سُئلوا: من خلق السموات والأرض؟ يقولون: الله - -، ولا أحد منهم يدعي أن هنالك خالقاً آخر مع الله، لكنهم كذبوا بالآيات الشرعية، كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كذبوا بما جاء به، فهم داخلون في الآية.
( وَلِقَائِهِ ) أي: كذبوا بلقاء الله، ومتى يكون لقاء الله؟
الجواب: يكون يوم القيامة، فهؤلاء كذبوا بيوم القيامة وجادلوا، وأُروا الآيات ولكنهم أصروا، قال الله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً) (يّـس:78) يكذبنا فيه فقال: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] تَحَدٍّ! من يحييها؟ رميم لا فيها حياة ولا شيء؟
)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79)
ومن الذي أنشأها أوّل مرة؟
الجواب: هو الله، والإعادة أهون من الابتداء كما قال الله عز وجل : )وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(الروم: الآية27)هذا دليل، إذاً الدليل على إمكان البعث، وإحياء العظام وهي رميم:
1 - أن الله تعالى ابتدأها ، ولما قال زكريا حين بُشِّر بالولد وكان قد بلغ في الكِبَر عتيا، إن امرأته عاقر، قال الله تعالى: )قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم:9) ، فالذي خلقك من قبل، وأنت لم تكن شيئاً قادر على أن يجعل لك ولداً.
2 - ) وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)(يّـس: الآية79)وإذا كان الله بكل خلق عليماً، فإنه لن يتعذر عليه أن يخلق ما يشاء، من الذي يمنعه إذا كان عليماً بكل خلق؟
الجواب: لا أحد يمنعه.
3 - )الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (يّـس:80) شجر أخضر يخرج منه نار، فالشجر الأخضر يضرب بالزند ثم ينقدح ناراً، وكان العرب يعرفون هذا، فالذي يخرج هذه النار، وهي حارة يابسة من غصن رطب بارد، يعني متضادان غاية التضاد، قادر على أن يخلق الإنسان، أو أن يعيد خلق العظام وهي رميم، ثم حقق هذه النار بقوله: { (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ )
4 - )أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يّـس:81)
الجواب: بلى، قال الله تعالى: )لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (غافر:57) فالذي خلق السموات والأرض بِكِبَرِهَا، وعظمها قادر على أن يعيد جزءاً من لا شيء بالنسبة للأرض، من أنت يا ابن آدم بالنسبة للأرض؟ لا شيء، أنت خلقت منها، أنت بعض يسير منها، فالذي قدر على خلق السموات والأرض، قادر على أن يخلق مثلهم، قال الله تعالى مجيباً نفسه: ) بَلَى)(يّـس: الآية81).
5 - )وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(يّـس: الآية81)الخلَّاق صيغة مبالغة، وإن شئت فاجعلها نسبة، يعني أنه موصوف بالخلق أزلا وأبدا، وهو تأكيد لقوله قبل: {وهو بكل خلق عليم } [يس: 79 .
6 - )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82)لا يحتاج إلى عمال ولا بنَّائين ولا أحد كن فيكون }؛ ولهذا قال : )إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) (يّـس:53)
كلمة واحدة.
7 - )فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (يّـس:83)
كل شيء فبيده ملكوته عز وجل يتصرف كما يشاء، فنسأله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم.
8 - { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83] فهذا هو الدليل الثامن. وإنما كان دليلاً؛ لأنه لولا رجوعنا إلى الله عز وجل لكان وجودنا عبثاً، وهذا ينافي الحكمة، فتأمل سياق هذه الأدلة الثمانية في هذا القول الموجز، ومع ذلك ينكرون لقاء الله.
في قوله: { بِآياتِ رَبِّهِمْ } إلزام لهم بالإيمان؛ لأنه كونه ربهم عز وجل يجب أن يطيعوه وأن يؤمنوا به، لكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن.
( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) يعني بَطَلَت ولم ينتفعوا بها، حتى لو أن الكافر أحسن وأصلح الطرق وبنى الرُّبط، وتصدق على الفقراء فإن ذلك لا ينفعه، إن أراد الله أن يثيبه عجل الله له الثواب في الدنيا، أما في الآخرة فلا نصيب له، نعوذ بالله نسأل الله الحماية والعافية، لأن أعماله حبطت، ولكن هل يحبط العمل بمجرد الردة أم لا بد من شرط؟
الجواب: لا بد من شرط، وهو أن يموت على ردته، قال الله تعالى: ) وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(البقرة: الآية217). أما لو ارتد، ثم مَنَّ الله عليه بالرجوع إلى الإسلام، فإنه يعود عليه عمله الصالح السابق للردة.
( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ) يعني أنه لا قدر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كناية عن سقوط مرتبتهم عند الله عز وجل .
وقيل: إن المعنى أننا لا نزنهم، لأن الوزن إنما يحتاج إليه لمعرفة ما يترجح من حسنات أو سيئات، والكافر ليس له عمل حتى يوزن، ولكن الصحيح أن الأعمال توزن كُلَّها، قال الله تعالى: )فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ(6) )فَهُوَ فِي عِيشَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ(9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ(10) نَارٌ حَامِيَةٌ) (القارعة:11) . فيقام الوزن؛ لإظهار الحجة عليه، والمسألة هذه فيها خلاف.
***
)ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (الكهف:106)
قوله تعالى: { )ذَلِكَ } يعني ذلك المذكور من أنه لا يقام لهم الوزن وأن أعمالهم تكون حابطة.
( جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) الباء للسببية و(ما) مصدرية وتقدير الكلام: بكفرهم.
( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) قوله: { وَاتَّخَذُوا } معطوفة على { كَفَرُوا } أي: بما كفروا واتخذوا، فهم - والعياذ بالله - كفروا وتعدى كفرهم إلى غيرهم، صاروا يستهزئون بالآيات، ويستهزئون بالرسل، ولم يقتصروا على كفرهم بالله.
( هُزُواً ) أي: محلَّ هُزؤ، يسخرون منهم، ولهذا قال الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم: )وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً)(الانبياء: الآية36): ) أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً)(الفرقان: الآية41)والاستفهام هنا لا يخفى أنه للتحقير، أهذا الرسول! )إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا)(الفرقان: الآية42). أعوذ بالله؛ يفتخرون أنهم صبروا على آلهتهم وانتصروا لها.
ثم ذكر ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم فقال:
***
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)
بدل ما كانت جهنم نزلا للكافرين، صارت جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، لكن بشرطين:
1 - الإيمان 2 - العمل الصالح. والإيمان محله القلب، والعمل الصالح محله الجوارح، وقد يراد به أيضاً عمل القلب، كالتوكل والخوف والإنابة والمحبة، وما أشبه ذلك.
و{ الصَّالِحَاتِ } هي التي كانت خالصة لله، وموافقة لشريعة الله.
ولا يمكن أن يكون العمل صالحاً إلاَّ بهذا، الإخلاص لله، والموافقة لشريعة الله، فمن أشرك؛ فعمله غير صالح، ومن ابتدع فعمله غير صالح، ويكون مردوداً عليهما، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: "أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"[5][53] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"[6][54] . أي: مردود عليه، فصار العمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لشريعة الله، أو لرسول الله؟
الجواب: لشريعة الله أحسن، إلاَّ إذا أريد بالمتابعة لرسول الله، الجنس، دون محمد صلى الله عليه وسلم فنعم، لأن المؤمنين من قوم موسى وقوم عيسى يدخلون في هذا.
( كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) قوله: { كَانَتْ لَهُمْ } هل المراد بالكينونة هنا الكينونة الماضية، أو المراد تحقيق كونها نزلاً لهم؟ كقوله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما }؟ نقول: الأمران واقعان، فكانت في علم الله نزلا لهم، وكانت نزلا لهم على وجه التحقيق؛ لأن "كان" قد يسلب منها معنى الزمان، ويكون المراد بها التحقيق.
( جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) هل هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته، أو لأن الفردوس هو أعلى الجنَّات، والجنَّات الأُخرى تحته؟
الجواب: الظاهر الثاني لأنه ليس جميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات ليسوا كلهم في الفردوس، بل هم في جنات الفردوس، والفردوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ"[7][55] أعلى الجنة ووسط الجنة معناه أن الجنة مثل القبَّة، وفيه أيضاً وصف رابع: ومنه تفجر أنهار الجنة.
***
)خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)
قوله تعالى: { )خَالِدِينَ فِيهَا } أبداً، ولا نزاع في هذا بين أهل السنة.
( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) أي لا يطلبون عنها بدلاً، { حِوَلاً } أي: تحولا؛ لأن كل واحد راضٍ بما هو فيه من النعم، وكل واحد لا يرى أن أحداً أكمل منه، وهذا من تمام النعيم، أنت مثلاً لو نزلت قصراً منيفاً فيه من كل ما يبهج النفس، ولكنك ترى قصر فلان أعظم منه، هل يكمل سرورك؟
الجواب: من يريد الدنيا لا يكمل سروره، لأنه يرى أن غيره خير منه، لكن في الجنة، وإن كان الناس درجات، لكن النازل منهم - وليس فيهم نازل - يرى أنه لا أحد أنعم منه، عكس أهل النار، أهل النار يرى الواحد منهم أنه لا أحد أشد منه، وأنه أشدهم عذاباً.
( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ) يعني لو قيل للواحد: هل ترغب أن نجعلك في مكان آخر غير مكانك لقال: "لا"، وهذا من نعمة الله على الإنسان أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله عز وجل وأن يطمئن ولا يقلق.
***
)قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)
قوله تعالى: { )قُلْ } أي: يا محمد: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً } يعني حبراً يكتب به ( لِكَلِمَاتِ رَبِّي )
( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل، لأنه المدبر لكل الأمور، وبكلمة {كن } لا نَفاد لكلامه عز وجل، بل أن في الآية الأخرى { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } ، أي: لو كان أقلاماً ) وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان:27) . لَنَفِد البحر وتكسرت الأقلام وكلمات الله - جلَّ وعلا - باقية.
( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) يعني زيادة، فإن كلمات الله لا تنفد، وفي هذا نص صريح على إثبات كلام الله عز وجل، وكلمات الله عز وجل كونية، وشرعية، أما الشرعية فهو ما أوحاه إلى رسله، وأما الكونية فهي ما قضى به قَدَرهُ )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82) ، وكل شيء بإرادته، إذاً فهو يقول لكل شيء { كُنْ فَيَكُونُ }، ومن الكلمات الشرعية ما أوحاه عز وجل إلى من دون الرسل، كالكلمات التي أوحاها إلى آدم، فإن آدم عليه الصلاة والسلام، نبي وليس برسول، وقد أمره الله ونهاه، والأمر والنهي كلمات شرعية.
***
)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف:110)
قوله تعالى: { )قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } يعني أعلن للملأ أنك لست ملكاً، وأنك من جنس البشر { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وذِكر المثلية لتحقيق البشرية، أي: أنه بشر لا يتعدى البشرية، ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يغضب كما يغضب الناس، وكان صلى الله عليه وسلم يمرض كما يمرض الناس، وكان يجوع كما يجوع الناس، وكان يعطش كما يعطش الناس، وكان يتوقى الحر كما يتوقاها الناس، وكان يتوقى سهام القتال كما يتوقاها الناس، وكان ينسى كما ينسى الناس، كل الطبيعة البشرية ثابتة للرسول - عليه الصلاة والسلام - وكان له ظِلٌ كما يكون للناس.
أمّا من زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نُورَاني، ليس له ظل فهذا كذب بلا شك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر له ظل ويستظل أيضاً، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له ظل، لنقل هذا نقلاً متواتراً؛ لأنه من آيات الله عز وجل إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثل الناس، وهل يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجلب للناس نفعاً أو ضراً؟
الجواب: لا، كما أمره الله عز وجل أن يقول: )قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (الجـن:21) ، ومن العجب أن أقواماً لا يزالون موجودين، يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر مما يتعلقون بالله عز وجل إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقشعرت جلودهم، وإذا ذكر الله كأن لم يُذكر! حتى إن بعضهم يؤثر أن يحلف بالرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يحلف بالله عز وجل وحتى إن بعضهم يرى أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أفضل من زيارة الكعبة، ولقد شاهدت أناساً حُجزوا عن المدينة في أيام الحج لقرب وقت الحج، لأنه إذا قرب وقت الحج منعوهم من الذهاب إلى المدينة، لئلَّا يفوتهم الحج، يبكي! يقول: أنا منعت من الأنوار، ومنعت من كذا وكذا ويعدد ما نسيته الآن، فيقال له: أنت لماذا جئت؟ قال: جئت لمشاهدة الأنوار كأنه ما جاء إلا لزيارة المدينة، ونسي أنه جاء ليؤدي فريضة الحج، وسبب ذلك الجهل؛ وأن العلماء لا يبينون للعامة، وإلاّ فالعامي عنده عاطفة جياشة لو أنه أخبر بالحق لرجع إليه.
( يُوحَى إِلَيَّ ) هذا هو الميزة للرسول صلى الله عليه وسلم، أنه يوحى إليه، وغيره لا يوحى إليه، إلاَّ إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) هذه الجملة حصر، كأنه قال: لا إله إلا واحد، واستفدنا أنها للحصر من "إنَّما"؛ لأن كلمة "إنما" من أدوات الحصر، تقول: "إنما زيد قائم" يعني ليس له وصف غير القيام، وتقول: "إنما العلم بالتعلم" وليس هناك طريق للعلم إلاَّ بالتعلم.
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي: يُأمِّل أن يلقى الله عز وجل ويؤمن بذلك.
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ) دعوة يسيرة سهلة، أتريد أن تلقى ربك وقلبك مملوء بالرجاء؟ إذا كان كذلك
{ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }. كل إنسان عاقل يرجو لقاء الله عز وجل ولقاء الله عز وجل ليس ببعيد، قال الله تعالى: )مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:5). قال بعض العلماء: إن قوله { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ } بمعنى قولِهم "كل آتٍ قريب".
( فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )إذا قال قائل: ألستم قررتم أن العمل الصالح، لا بد فيه من إخلاص ومتابعة؟ قلنا: بلى، لكنه لما كان الإخلاص ذا أهمية عظيمة ذكره تخصيصاً بعد دخوله ضمن قوله: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً }.
وتأمل قوله: { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } ليتبين لك أنه جلَّ وعلا حقيق بأن لا يشرَك به؛ لأنه الرب الخالق المالك المدبر لجميع المخلوقات، إننا نقول بقلوبنا وألسنتنا: "ربنا الله" ونسأل الله تعالى الاستقامة حتى ندخل في قوله تعالى
)إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30)
والحمد لله الذي وفقنا لإكمال هذه السورة، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1][49] متفق عليه. البخاري: كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج، (3346). مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: اقتراب الفتنة، وفتح ردم يأجوج ومأجوج، (2880)، (2).
[2][50] جزء من حديث طويل رواه مسلم: كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، (110) وغيره.
[3][51] رواه مسلم: كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (770)، (200) وغيره.
[4][52] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون قال أربعون يوما . قال: أبيت قال : أربعونشهرا قالك أبيت قال أربعون سنة قال أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا، وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيام" متفق عليه. البخاري: كتاب: التفسير، باب: (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا)، (4935). مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (2955).
[5][53] رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غيره الله، (2985)، (46) وغيره.
[6][54] أخرجه مسلم، كتاب: الأقضية ، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، (1718)، (17).
[7][55] رواه البخاري: كتاب: الجهاد والسير، باب: درجات المجاهدين في سبيل، (2790).