[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
و فجأة حل صمت رهيب ، الكل يتساءل في داخله ما الذي حدث؟
لكن
لا احد يجد الجواب، خيم الهدوء على المكان كله،و جلست وحيدا ارتقب إطلالة
الشمس لعلها تغير صمت المكان بضجة أشعتها النافذة عبر زجاج النافذة ، الذي
سر بها و هي تستأذنه في الدخول إلى الغرفة فتذهب عنها ما عانته من ظلمة
طيلة ليلة كاملة و ما إن دخلت حتى انقلب الصمت هرجا،كل ركن في الغرفة
يهتف: قد جاء النور ،قد جاء النور،كل قطعة أثاث تغني أغنية الشوق الذي
لازمها طوال الليل،الشوق إلى من اعتادت دفئها وضوءها،لكن شعاع الشمس لا
يأبه لكل ذلك و كأنه لا يرى شيئا منه، فراح يمسح كل ركن و كل زاوية و كل
قطعة أثاث بكفه المليء بالدفء، فيلمع كل شيء لامسه كأنه الذهب .و رحت
أنا استجمع قواي للنهوض، لكن دفء الفراش جذبني و همس في أذني : ابق !
فالجو بارد في الخارج ، ثم لا تدعني وحيدا فما أنا لمواجهة البرد بقادر.
فقلت:إلى متى سأبقى معك ،لا بد و أن يأتي وقت تبقى فيه بمفردك، ثم إننا سنلتقي في المساء.
فقال:إن قمت الآن فلن تجدني في المساء.
فقلت: و لما؟
فقال وهو يئن أنين المحتضر:إن رحلت عني مت و انقضى اجلي.
فقلت: كيف و أنا أجدك كل ليلة؟
فقال:إن ما تجده كل ليلة ليس أنا ، بل هم إخوتي حكم علينا أن نولد و نموت في ليلة كاملة.
فمكثت قليلا و أنا أفكر ،أأنهض أم أبقى؟ وان بقيت، فماذا افعل؟
ثم قلت:إن كان قد حكم عليهم بذلك، فلما بقائي إذن؟
فودعته
وداع المستعجل و قفزت من فراشي لأخفف عنه الم الموت، و مشيت بخطى متثاقلة
صوب النافذة و كأني احن إلى الدفء الذي مات،و فتحت النافذة ،ففوجئت بشيء
رقيق ناعم يعانقني ثم يقبلني قبلة اقشعر منها بدني كله...
فقلت:ما هذا؟
فسمعت صوتا نديا عذبا في أذني: أنا نسمة الصباح.
فقلت:فلما قبلتني بعد عناق؟
فقالت:لقد أطلت في فتح النافذة ، فاشتقت إليك و إني مستعجلة.
فقلت: وفيما استعجالك؟
فقالت:أو لم تعلم أني كل يوم انقل روح الدفء إلى مثواها الأخير.
فقلت: و أين مثواها إذن؟
فقالت:في قلبك وفي قلب كل إنسان عطوف و أم حنون.
فقلت:أو يموت الدفء ليحيا في داخلنا؟
فقالت:إن
حياته في الخارج قصيرة،قد تستبدل بحرارة المدفأة أو دفء الغطاء،لكن حياته
في داخلكم أزلية،لا تزول إلا بزوالكم.احضن أمك و ستجد آن الدفء يفيض من
حضنها.
فأسرعت
إلى أمي و خرجت من الغرفة ، فاستقبلني وجه أمي بامتسامة أذهبت عني الكسل و
الخمول، فقبلت بين عينيها و احتضنتها فسمعت صوتا شجيا يقول : خذ مني ما
شئت، فلن تنقص مني شيئا.
فقلت:و من أنت ؟و ماذا آخذ منك؟
فقال : أنا حنان الأم، ولدت بمولدك و كبرت برؤيتها إياك تكبر، فدعني أرد بعضا من فضلك علي.
فقلت: كيف ولدت بمولدي و كبرت و إياي؟
فقال:كان
فؤاد أمك فارغا،فلما ولدت ،ولدت أنا في قلبها و رحت اكبر بكل قبلة منها
إليك،بكل ضمة صدر أفاضت بها عليك، وبكل رضعة رضعتها من ثديها...
فقلت:يكفيني منك دعاء من قلب أمي تشرق به الدنيا أمام ناظري.
ثم قبلت أمي على يدها،فأغدقت علي بالدعاء،فأحسست بخفة تغمرني و كأني أمشي على السحاب و النور يعانقني من كل جهة و صوب.
فقلت
في نفسي بعد أن تنهدت تنهدا أذهب عني همومي و أحزاني:حمدا لله و ألف
حمد،أين كنت من كل هذا؟غمرتني مشاغل و مشاكل حياتي و أغفلتني عن حياة روحي
حتى كدت أقضي و أقضي على كل لون وردي فيها.
و
بينما أنا في غمرة من ذلك اذا بصوت جديد،أسمع صداه و لا أعرف مصدره،الا
انه هذه المرة كان أقرب و أوضح و كأنه ينبع من أعماقي،يقول لي:عتابي عليك
كبير،و شكري لك كثير.
فقلت:أشكر بعد عتاب؟من أنت؟
فرد الصوت:أنا بذرة الخير في قلبك.
فقلت:فيما العتاب و لما الشكر اذن؟
فقالت:أعتب
عليك لأنك أمسكت عني ودق الحياة بقسوة قلبك و كذت لتردين بكثرة ما اشتغلت
بالجماد و المادة و أغلقت قلبك عن نبع حياته،فأضحت ارضه مقفرة لا تصلح
للزرع و النبات..
فارتسمت على وجهي علامات الحيرة...أم تراها اليقظة بعد النوم العميق،يفيق صاحبها و كأنما به مسا أو جنونا.
و قلت:هذا العتاب،فلما الشكر؟
فارتعشت
رعشة من عادت اليه الحياة بعد ان دنا من الهلاك و قالت:شكرا لك لأنك أرسلت
سماء قلبك،و أمطرت علي مطر الحياة،فارتويت و خرج نباتي مخضرا زاهيا و اشتد
و أينع...
سكت بعض الوقت،ثم تذكرت حديثها عن نبع حياة قلبي الذي يحييه،فسألتها:و ما نبع حياة قلبي؟
فقالت:لا حياة لقلبك دون صفاء سريرة،و نقاء روح و صدق مشاعر و عطف على الآخرين و ذكر لرب العالمين و ...
فقلت: حسبك! سألتك عن نبع واحد، واذا بك تجودين بوابل من الكلمات.
فأجابت
بهمس المستحيي:ان مثل ما ذكرته كمثل الحجارة التي تحيط بالنبع،ارتص بعضها
فوق بعض،و مياه النبع تغسلها صبحا و عشيا،فلا يحذوها دنس و لا يشوبها
قذر،وأما النبع الذي لا ينضب فايمان بمن خلق القلب و جبله على الخير،فذا
النبع و ذا القلب،فلا تقطع سبيل النبع ليرتوي القلب...