ارتقت
الحضارة الإسلامية ارتقاءً فريدًا، جعلها تُضيف للحضارة الإنسانية الكثير
والكثير، ومن أهم الدعائم التي قامت عليها حضارتنا الإسلامية الخالدة
النظام المؤسسي الذي لم يتقيَّد بأفراد أو جماعات، لها ثمة أغراض ضيقة
ومحدودة؛ إذ ارتبطت هذه المؤسسات بالدستور الإسلامي القائم على كتاب الله
وسُنَّة رسوله ، والذي أتاح للأفراد أن يُظهروا طاقاتهم ومواهبهم؛ ممَّا
حدا بهذه المؤسسات أن تتجدَّد عبر الزمن، وتتواكب مع عصرها ومصرها؛ ومن أهم
المؤسسات التي أضافت للتراث العالمي ذخيرة رائعة، وفيضًا من النظريات
والقواعد التي ما زالت تُطَبَّق حتى عصرنا الحاضر نجد "المؤسسة السياسية
الإسلامية"، هذه المؤسسة الرائعة التي تَرَتَّب على إنشائها، وتطويرها عبر
مراحلها الإسلامية المتعاقبة أن اعتُبرت أنموذجًا يُحتذى بالنسبة للأمم
الإنسانية الأخرى.
وإن المتأمل للإسلام وتاريخه يُدرك أن
تغييرًا جوهريًّا جاء به هذا الدين العريق، هذا التغيير شمل كافَّة مناحي
الحياة البشرية؛ فالإسلام استطاع أن يُغيِّر البشر أنفسهم، ويُغيِّر ما
توارثوه عن آبائهم وأجدادهم في النواحي الأخلاقية والسلوكية، والعقائدية
والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية... بل أزال الإسلام النظم السياسية
الكسروية والقيصرية التي ظلت جاثمة على صدور الناس آلاف السنين؛ لأنها لم
تتوافق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من ضرورة تحقيق قواعد الحكم بين
الناس، والتي تقوم على العدل والمساواة، والبحث عن مصالح الرعية، وحفظ
دينهم ودنياهم، وضرورة احترام كرامتهم وعدم امتهانها، وغير ذلك مما لا
يُستطاع حصره.
وقبل الخوض في حديثنا عن الخلافة الإسلامية
وكذا الإمارة من المنظور الحضاري، يجب أن نتوقف مع وجهة نظر لُغويِّي
الإسلام ومؤرخيه ومفكريه حول هذه القضية المهمة، فكل قد ارتأى الخلافة من
منظوره الثقافي والأيديولوجي والتربوي.
أولاً: الخلافة
فالمفهوم
اللغوي للخلافة يذكره ابن منظور المصري بقوله: "خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ صَارَ
خَلْفَهُ... وَالخَلِيفةُ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ مِمَّنْ قَبْلَهُ،
وَالْـخِلافَةُ الإِمَارَةُ"[1]. على أن الزبيدي ينقل عن ابن الأثير قوله:
"الخَلَفُ، بِالتَّحْرِيكِ، وَالسُّكُونِ: كُلُّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَ مَنْ
مَضَى، إِلاَّ أَنَّهُ بِالتَّحْرِيكِ فِي الْـخَيرِ، وَبِالتَّسْكِينِ فِي
الشَّرِّ"[2].
ولقد استعمل القرآن الكريم لفظ "الخليفة"
بصيغة الجمع للإشارة إلى بعض الجماعات، لكن لم تكن لها أدنى علاقة
بالمؤسسات السياسية، واستخدمها في محلَّيْن مفردة، مرَّة إشارة إلى آدم u
إذ قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْـمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، ومرَّة إلى داود u: {يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26]، وكانت معظم التفاسير
حول هاتين الآيتين تدور حول المعاني اللغوية، من الاستخلاف والنيابة[3]،
ومن ثم وجدنا أبا بكر الصديق t أول من تلَّقب بالخليفة؛ إذ خلف رسول الله
في رئاسة الأمة[4].
ثانياً: الإمارة
وأما الإمارة فكانت
منصبًا مُلحًّا بعدما اتسعت دولة الإسلام، وتعددت الأقطار، فقد كان
الخليفة يُفَوِّض إمارة بلد أو إقليم للوالي أي الأمير على جميع أهله،
ويكون لهذه الولاية عقد يتم باختيار الخليفة ورضائه، ومن ثم أصبح كل مَن
يتولى أمر بلد أو قطر من الأقطار نيابة عن الخليفة يُلقب بالأمير أو
الوالي[5].
أنواع الإمارة:
والإمارة كما قسَّمها
فقهاؤنا على نوعين: إمارة عامَّة، وإمارة خاصَّة، والإمارة العامَّة كذلك
على فرعين: الأول: إمارة الاستكفاء: وهي أن يُفَوِّض رئيسُ الدولة باختياره
إلى شخص إمارة بلد، أو إقليم، ويَعْهَدُ إليه بالولاية على جميع سكانه،
وعلى جميع شئونه ومصالحه، والثاني: إمارة الاستيلاء: ولا تكون إلاَّ عندما
يستولي رَجُلٌ على الإمارة، ويستبدُّ بالسلطة، ويخشى رئيس الدولة وقوع
الفتنة إن هو لم يَقْبَلْ به، فعندئذٍ يجوز له أن يُقِرَّه على هذه
الإمارة، ولا تكون هذه الإمارة إلاَّ للضرورة.
وأمَّا
الإمارة خاصَّة: فهي التي تتحدَّد فيها سلطات الأمير بصلاحيات مُعَيَّنَة؛
كتدبير الجيش وسياسة الرعية، وحماية الإقليم، والدفاع عن المحارم، وليس له
أن يتعرَّض للقضاء والأحكام وجباية الخراج والصدقات، ويلاحظ أن الإمامات
كانت في صدر الإسلام عامَّة، ثم بدأتْ تُخَصَّصُ بِتَوَسُّع الدولة
وتَعَقُّد الجهاز الإداري، حتى أصبحت سلطة الأمير مقصورة على قيادة الجيش
وإمامة الصلاة[6].
منقول د. راغب السرجاني
تحياتي خالد الفاتح
الحضارة الإسلامية ارتقاءً فريدًا، جعلها تُضيف للحضارة الإنسانية الكثير
والكثير، ومن أهم الدعائم التي قامت عليها حضارتنا الإسلامية الخالدة
النظام المؤسسي الذي لم يتقيَّد بأفراد أو جماعات، لها ثمة أغراض ضيقة
ومحدودة؛ إذ ارتبطت هذه المؤسسات بالدستور الإسلامي القائم على كتاب الله
وسُنَّة رسوله ، والذي أتاح للأفراد أن يُظهروا طاقاتهم ومواهبهم؛ ممَّا
حدا بهذه المؤسسات أن تتجدَّد عبر الزمن، وتتواكب مع عصرها ومصرها؛ ومن أهم
المؤسسات التي أضافت للتراث العالمي ذخيرة رائعة، وفيضًا من النظريات
والقواعد التي ما زالت تُطَبَّق حتى عصرنا الحاضر نجد "المؤسسة السياسية
الإسلامية"، هذه المؤسسة الرائعة التي تَرَتَّب على إنشائها، وتطويرها عبر
مراحلها الإسلامية المتعاقبة أن اعتُبرت أنموذجًا يُحتذى بالنسبة للأمم
الإنسانية الأخرى.
وإن المتأمل للإسلام وتاريخه يُدرك أن
تغييرًا جوهريًّا جاء به هذا الدين العريق، هذا التغيير شمل كافَّة مناحي
الحياة البشرية؛ فالإسلام استطاع أن يُغيِّر البشر أنفسهم، ويُغيِّر ما
توارثوه عن آبائهم وأجدادهم في النواحي الأخلاقية والسلوكية، والعقائدية
والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية... بل أزال الإسلام النظم السياسية
الكسروية والقيصرية التي ظلت جاثمة على صدور الناس آلاف السنين؛ لأنها لم
تتوافق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من ضرورة تحقيق قواعد الحكم بين
الناس، والتي تقوم على العدل والمساواة، والبحث عن مصالح الرعية، وحفظ
دينهم ودنياهم، وضرورة احترام كرامتهم وعدم امتهانها، وغير ذلك مما لا
يُستطاع حصره.
وقبل الخوض في حديثنا عن الخلافة الإسلامية
وكذا الإمارة من المنظور الحضاري، يجب أن نتوقف مع وجهة نظر لُغويِّي
الإسلام ومؤرخيه ومفكريه حول هذه القضية المهمة، فكل قد ارتأى الخلافة من
منظوره الثقافي والأيديولوجي والتربوي.
أولاً: الخلافة
فالمفهوم
اللغوي للخلافة يذكره ابن منظور المصري بقوله: "خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ صَارَ
خَلْفَهُ... وَالخَلِيفةُ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ مِمَّنْ قَبْلَهُ،
وَالْـخِلافَةُ الإِمَارَةُ"[1]. على أن الزبيدي ينقل عن ابن الأثير قوله:
"الخَلَفُ، بِالتَّحْرِيكِ، وَالسُّكُونِ: كُلُّ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَ مَنْ
مَضَى، إِلاَّ أَنَّهُ بِالتَّحْرِيكِ فِي الْـخَيرِ، وَبِالتَّسْكِينِ فِي
الشَّرِّ"[2].
ولقد استعمل القرآن الكريم لفظ "الخليفة"
بصيغة الجمع للإشارة إلى بعض الجماعات، لكن لم تكن لها أدنى علاقة
بالمؤسسات السياسية، واستخدمها في محلَّيْن مفردة، مرَّة إشارة إلى آدم u
إذ قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْـمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، ومرَّة إلى داود u: {يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26]، وكانت معظم التفاسير
حول هاتين الآيتين تدور حول المعاني اللغوية، من الاستخلاف والنيابة[3]،
ومن ثم وجدنا أبا بكر الصديق t أول من تلَّقب بالخليفة؛ إذ خلف رسول الله
في رئاسة الأمة[4].
ثانياً: الإمارة
وأما الإمارة فكانت
منصبًا مُلحًّا بعدما اتسعت دولة الإسلام، وتعددت الأقطار، فقد كان
الخليفة يُفَوِّض إمارة بلد أو إقليم للوالي أي الأمير على جميع أهله،
ويكون لهذه الولاية عقد يتم باختيار الخليفة ورضائه، ومن ثم أصبح كل مَن
يتولى أمر بلد أو قطر من الأقطار نيابة عن الخليفة يُلقب بالأمير أو
الوالي[5].
أنواع الإمارة:
والإمارة كما قسَّمها
فقهاؤنا على نوعين: إمارة عامَّة، وإمارة خاصَّة، والإمارة العامَّة كذلك
على فرعين: الأول: إمارة الاستكفاء: وهي أن يُفَوِّض رئيسُ الدولة باختياره
إلى شخص إمارة بلد، أو إقليم، ويَعْهَدُ إليه بالولاية على جميع سكانه،
وعلى جميع شئونه ومصالحه، والثاني: إمارة الاستيلاء: ولا تكون إلاَّ عندما
يستولي رَجُلٌ على الإمارة، ويستبدُّ بالسلطة، ويخشى رئيس الدولة وقوع
الفتنة إن هو لم يَقْبَلْ به، فعندئذٍ يجوز له أن يُقِرَّه على هذه
الإمارة، ولا تكون هذه الإمارة إلاَّ للضرورة.
وأمَّا
الإمارة خاصَّة: فهي التي تتحدَّد فيها سلطات الأمير بصلاحيات مُعَيَّنَة؛
كتدبير الجيش وسياسة الرعية، وحماية الإقليم، والدفاع عن المحارم، وليس له
أن يتعرَّض للقضاء والأحكام وجباية الخراج والصدقات، ويلاحظ أن الإمامات
كانت في صدر الإسلام عامَّة، ثم بدأتْ تُخَصَّصُ بِتَوَسُّع الدولة
وتَعَقُّد الجهاز الإداري، حتى أصبحت سلطة الأمير مقصورة على قيادة الجيش
وإمامة الصلاة[6].
منقول د. راغب السرجاني
تحياتي خالد الفاتح